في السنوات الأخيرة، بدأ “عدو صامت” يشق طريقه إلى جنوب العراق، وفشلت المستويات المنخفضة لتدفق المياه من نهري دجلة والفرات، اللذين يلتقيان في الأراضي المنخفضة في البصرة، في صد موجة المد والجزر من مياه البحر المالحة التي تتجه نحو الشمال.
وتدمر هذه المياه المالحة الزاحفة عدداً لا يحصى من بساتين النخيل والحمضيات والمحاصيل الزراعية الأخرى في طريقها، والتي ازدهرت لآلاف السنين، بفضل الظل الذي توفره أشجار النخيل، وحمايتها من أشعة الشمس الحارقة.
عدنان خضير السنافي، من منطقة البحار في محافظة البصرة، أقصى جنوب العراق، عمل في بستان النخيل هذا طوال حياته، كما فعل أجداده منذ أجيال، ولقد وجد عدنان والعديد من أمثاله أنفسهم أمام خيارين: إما البقاء والاستمرار – الأمر الذي أدى في كثير من الأحيان إلى خسائر كبيرة للمزارعين – أو المغادرة بحثًا عن سبل العيش في مكان آخر.
لقد جرب عدنان كلا الأمرين، وإذا لم يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة الآن، فمن المرجح أن يكون هذا هو المصير الحتمي للكثيرين في السنوات المقبلة حيث تصبح الظروف متقلبة بشكل متزايد في العراق بسبب تغير المناخ.
ويتذكر عدنان قائلاً: “كانت هذه الأرض الجنة. ولم يكن ضوء الشمس يصل إلى الأرض بسبب كثافة أشجار النخيل، لقد زرعت في ظلها أشجار الحمضيات، وكان لدينا أكثر من 60 صنفاً من أجود التمور، مثل البرحي، والساير، والجنتار، والبليني”.
ويضيف: “مع زيادة الملوحة، رأيت كيف ماتت أشجاري وتدهورت الأرض تدريجياً، واصلت المحاولة، وواصلت الزراعة كل عام، لكن كل جهودي باءت بالفشل، لقد خسرت حوالي 45 مليون دينار عراقي (30 ألف دولار أمريكي)”.
قصة الخسارة والحسرة هذه ليست فريدة من نوعها، ويواجه عدد لا يحصى من المزارعين مثل عدنان نفس المصير، ولم يتبق سوى عدد قليل جدًا من الخيارات.
ويضيف عدنان: “كل ما تبقى الآن هو جذوع وجذوع ميتة”.
وإلى الشمال، في محافظة ذي قار، تجف الأهوار بسبب انخفاض مستويات المياه في نهري دجلة والفرات بسبب انخفاض هطول الأمطار؛ وبناء السدود في تركيا وإيران المجاورتين على الأنهار أو روافدها؛ وغياب الإدارة المستدامة للموارد المائية محليا. اشتهرت هذه الأهوار بتنوعها البيولوجي ومجتمعاتها المستدامة وممارسات الثروة الحيوانية وصيد الأسماك التي يعود تاريخها إلى بلاد ما بين النهرين القديمة.
ويقول الدكتور وسام كاظم سنكور الأسدي: “لقد تسببت ندرة المياه وملوحتها في تدهور النظام البيئي والتنوع البيولوجي للحيوانات والنباتات في هذه المنطقة”.
وولد الدكتور وسام ونشأ في أهوار الجبايش، ويعمل الآن مع منظمة المناخ الأخضر العراقية، وهي منظمة غير حكومية محلية مكرسة للحفاظ على الأهوار، على بناء القدرة على الصمود في مجتمعات الأهوار في مواجهة تغير المناخ.
ويضيف: “لقد انخفضت أعداد الجاموس والأسماك بشكل كبير في السنوات الأخيرة، مما تسبب في خسارة الكثير من الناس لسبل عيشهم، في غضون 10 سنوات، سوف يتغير منظر الأهوار إلى الأبد، ونحن نراها بالفعل تتكشف أمام أعيننا، الأهوار تنقرض تدريجياً”.
لكن تأثير تغير المناخ أعمق من ذلك، وتتزايد الهجرة من الريف إلى الحضر استجابة للتدهور البيئي والمخاطر الطبيعية بمعدل ينذر بالخطر، حيث تبحث الأسر عن عمل في المناطق الحضرية أو تضطر إلى إرسال أطفالها للعمل في المدن للتغلب على فقدان الدخل.
في حين يقول رئيس بعثة المنظمة الدولية للهجرة في العراق، جيورجي جيجوري: إن “تغير المناخ في العراق ليس مجرد مشكلة بيئية، ومن الممكن أن تتحول إلى أزمة إنسانية، فهو يغذي الاستغلال ويساهم في التنقل القسري، وعلينا أن نعمل الآن لتجنب آثار تغير المناخ وتقليلها ومعالجتها، وإن عواقب التقاعس عن العمل وخيمة بالنسبة لعدد لا يحصى من الناس”.
وسجلت المنظمة الدولية للهجرة لحالات الطوارئ المناخية في العراق، نزوح أكثر من 130000 شخص بين عامي 2016 أيلول 2023 بسبب الآثار السلبية لتغير المناخ في مناطقهم الأصلية. لقد تم التخلي تماماً عن عشرة مواقع تم تقييمها في ذي قار من أجل تقييم جديد لضعف المناخ التابع للمنظمة الدولية للهجرة – والذي نُشر في نوفمبر 2023. وتقع معظم هذه المواقع المهجورة في ذي قار، وخاصة في منطقتي الناصرية وسوق الشيوخ.
تعمل المنظمة الدولية للهجرة في العراق بشكل وثيق مع الشركاء الوطنيين والمحليين لمعالجة التأثير السلبي لتغير المناخ منذ عام 2018، وقد نجحت مشاريع البنية التحتية للمياه التابعة للمنظمة الدولية للهجرة في ربط أكثر من مليون شخص بمياه آمنة ويمكن الوصول إليها للشرب والزراعة، وقد أدى دعم المنظمة الدولية للهجرة للمؤسسات الزراعية الصغيرة والمتوسطة الموجهة نحو الاستدامة إلى خلق أكثر من 1600 فرصة عمل؛ وساعدت صناديق بدء الأعمال التجارية وحزم التنمية 2200 مزارع من أصحاب الحيازات الصغيرة على التكيف بشكل أفضل مع تغير المناخ.
إن حجم التأثير أكبر بكثير مما تستطيع أي منظمة واحدة عكسه، بينما تنفذ حكومة العراق استراتيجيتها للعمل المناخي، فإن التعاون بين المجتمع الدولي والشركاء الحكوميين والمجتمع المدني والقطاع الخاص والمجتمعات المتنوعة في البلاد أمر ضروري.
الاستثمارات في البنية التحتية الذكية مناخيا؛ أنظمة وسياسات عادلة لإدارة الأراضي والمياه؛ وفرص كسب العيش المستدامة والمتنوعة؛ وكذلك أنظمة الإنذار المبكر والتأهب للكوارث.
المصدر: ReliefWeb