في وقت تُقرع فيه نواقيس الخطر منبّهةً إلى أزمة مائية غير مسبوقة تضرب العراق، يُصرّ كثير من المواطنين على التعامل مع المياه كما لو كانت ثروة لا تنضب. ففي بلد يعاني من انخفاض حاد في منسوب الأنهار، ونضوب العيون المائية، وجفاف مساحات زراعية شاسعة، تبرز سلوكيات يومية من الهدر المنظم والممنهج للمياه في المدن والبلدات، كأنما العطش لم يصل بعد.
من قلب العاصمة بغداد، حتى أزقة المحافظات الأخرى، باتت مشاهد مثل غسل السيارات الشخصية في الشوارع، أو رش الأرصفة وأبواب المحال في الصباحات، مألوفة لا تستدعي استغراباً. وعلى الرغم من ارتفاع درجات الحرارة وتراجع الإمدادات، تُسقى الحدائق المنزلية بطريقة عشوائية، وتُغسل الأرصفة بالخرطوم، فيما لا تزال محطات غسيل السيارات والمولدات الأهلية تعمل بكامل طاقتها، وكأن العراق ليس في قلب واحدة من أسوأ الأزمات المائية في تاريخه الحديث.
استهلاك قياسي
في تقرير نشره مرصد العراق الأخضر البيئي يوم الأربعاء، كشف عن أن معدلات استهلاك المواطن العراقي للمياه تعد الأعلى عربياً وعالمياً. وأوضح أن “معدل استهلاك الفرد في العراق يبلغ نحو 400 لتر يومياً”، وهو رقم يتجاوز استهلاك الفرد في العديد من البلدان الغنية مائياً مثل كندا أو السويد، والتي تتخذ إجراءات صارمة لترشيد استخدام الماء.
وقال المرصد في بيانه إن “العراق بات في صدارة الدول المهدرة للمياه، في وقتٍ تُهدد فيه أزمة الجفاف الأمن الغذائي والسكاني في مناطق واسعة من البلاد”، داعياً الجهات الرسمية إلى اتخاذ إجراءات عاجلة تجاه ما وصفه بـ”الاستهتار المجتمعي العام بهذه الثروة الوطنية”.
لا مبالاة شعبية
في ظل انخفاض غير مسبوق في مناسيب نهري دجلة والفرات، وتراجع مخزون السدود بنحو 60% مقارنة بالسنوات الماضية وفق بيانات وزارة الموارد المائية، تعاني مناطق في محافظات ديالى، وواسط، وذي قار، من جفاف حاد تسبب في هجرة آلاف العائلات من القرى الزراعية إلى أطراف المدن.
ويحذر مختصون من أن العراق فقد بالفعل أكثر من 50% من أراضيه الزراعية نتيجة شح المياه. ورغم هذه المؤشرات المقلقة، لا تزال ثقافة الهدر حاضرة في السلوك اليومي للمواطن، دون برامج توعية فعّالة، أو ردع قانوني واضح.
يقول المهندس الزراعي سامي عبد الواحد، من محافظة واسط، إن “الناس يتعاملون مع الماء كما لو أنه وافر لا ينضب. تجد من يرش الشارع بالماء ظهراً لتبريده، وآخر يغسل الرصيف كل صباح، دون أن يدركوا أنهم يساهمون في قتل الزراعة وتجفيف الأهوار”.
غياب التشريعات والوعي
بحسب تقارير لوزارة البيئة العراقية، فإن أكثر من 70% من المياه المخصصة للزراعة تُهدر بسبب سوء الإدارة والري غير المنظم. كما أن البُنى التحتية المتقادمة لشبكات المياه، تسهم في فقدان أكثر من 30% من المياه خلال التوزيع.
وفي ظل هذا الواقع، لا توجد قوانين مفعّلة بصرامة لمنع الهدر المنزلي أو التجاري، ولا عقوبات واضحة على المخالفين. كما أن حملات التوعية تبقى موسمية، غالباً ما تُطلق خلال أزمات قصيرة، ثم تختفي.
المختصون في شؤون البيئة، يقولون إن “الجهات المسؤولة تكتفي بإصدار البيانات، لكنها لم تضع استراتيجية وطنية حقيقية لتغيير سلوك المواطن تجاه المياه”، مؤكدين “لا يكفي أن نحذر من الجفاف، بل يجب أن نزرع في وعي الناس أن كل لتر يهدر، هو لتر يُسرق من مستقبل أولادهم”.
ورغم أن العراق يعاني من آثار تغيّر المناخ، ويحتل مرتبة متقدمة في تصنيف الدول المعرضة للجفاف، إلا أن “ثقافة الوفرة” لا تزال مسيطرة على نظرة المواطن العراقي للمياه، وهي ثقافة ترسخت على مدى عقود حين كانت الأنهار جارية دون انقطاع، وكانت السياسات المائية متساهلة.