لليوم السابع على التوالي، يعيش سكّان العاصمة بغداد، وتحديدا، المنطقة الخضراء، والمناطق المحيطة والقريبة منها، على وقع اضطرابات غير مسبوقة في أنظمة تحديد المواقع العالمية (GPS).
الأجهزة تتلعثم، الخرائط تنحرف، وخدمات التوصيل والتطبيقات الذكية تُصاب بالشلل، في واحدة من أعنف موجات التشويش التي عرفها العراق منذ سنوات.
مصادر متخصصة أكدت أن التشويش طال أيضاً الطائرات المدنية التي حلّقت فوق العاصمة، ما دفع منظمة الطيران المدني الدولي (ICAO) إلى تلقي تقارير عاجلة من طيارين أبلغوا عن فقدان الإشارة أو انحرافها أثناء المرور في الأجواء الوطنية.
“ما يحدث يتطلّب قدرات دول”
يقول الدكتور عمار العيثاوي، أستاذ هندسة المعلومات في جامعة النهرين وعضو لجنة المستشارين في وزارة الاتصالات، في تصريحٍ خاص لمنصة “إيشان”، إن “التشويش الذي حصل وحتى يتم تغطية هذه المساحات الواسعة، يحتاج إلى أدوات خاصة، تُعرف بأدوات الحرب الإلكترونية، وهذه لا تمتلكها إلا الدول”.
العيثاوي حذّر من أن استمرار الظاهرة دون تفسير رسمي “سيؤدي إلى تصنيف الأجواء العراقية على أنها غير آمنة للطيران”، موضحاً أن “بعض شركات الطيران قد تُعيد النظر بمساراتها الجوية فوق العراق، وهو ما يعني خسائر مالية جسيمة للدولة التي تستفيد من رسوم العبور (الترانزيت)”.
وأضاف أن “أكثر من ٣٠٠ ألف كابتن في تطبيقات التوصيل والنقل تأثروا بشكل مباشر نتيجة فقدان دقة المواقع، ما انعكس على الحياة اليومية للمواطنين الذين “صار صعباً عليهم الوصول إلى وجهاتهم في العاصمة”.
واعتبر العيثاوي أن “الجهة المسؤولة عن متابعة الطيف الترددي (هيئة الإعلام والاتصالات) مطالبة بإصدار بيان فوري يوضح سبب هذا التشويش ومصدره”، مؤكداً أن “الصمت الرسمي لا يليق بظاهرة تمسّ الأمن القومي والاقتصاد اليومي للمواطن”.
وختم قائلاً: “إذا كان الغرض تجريبياً، فمكان التجارب هو الصحراء لا المدن، لأن ما يجري اليوم خرق صريح لسيادة العراق”.
العراق في مرمى حرب إلكترونية صامتة
من جانبه، يؤكد الدكتور محمد عصمت البياتي، المختص في الاتصالات والشبكات والتحول الرقمي، أن ما يحدث في بغداد ليس حادثاً تقنياً عارضاً، بل جزء من حرب إلكترونية متصاعدة في أجواء المنطقة.
ويشير إلى أن “العراق شهد في السنوات الأخيرة تزايداً في حوادث التشويش على نظام GPS، حيث سجلت جهات دولية مختصة — من بينها منظمة الطيران المدني الدولي ومجموعة OPS Group — انحرافات بمسارات الطائرات تجاوزت 80 ميلاً بحرياً في بعض الحالات”.
ويضيف أن “ضعف الإشارات القادمة من الأقمار الصناعية يجعلها فريسة سهلة أمام أجهزة تشويش صغيرة أو محمولة، لكنها ذات تأثير مدمر”، مشيراً إلى نوعين من الهجمات:
١ التشويش المباشر (Jamming): بثّ تردد قوي يغمر الإشارة الأصلية ويمنع استقبالها.
٢ التشويش المزيّف (Spoofing): إرسال إشارات مزيفة تحاكي الأصلية لكنها تحتوي بيانات مضللة تدفع الأجهزة لتحديد مواقع خاطئة.
ويحذر البياتي من أن ما يجري قد يرتبط بتجارب دفاعية لحماية مواقع أو قواعد عسكرية، أو بعمليات استعراض للقوة الإلكترونية بين دول تمتلك قدرات متقدمة في الحرب السيبرانية.
مخاطر اقتصادية تتصاعد
تأثير التشويش لم يقتصر على الطائرات أو الخدمات العسكرية، بل امتد إلى القطاعات المدنية الحيوية: أنظمة الطيران المدني أصبحت أكثر عرضة للأخطاء في الإقلاع والهبوط. وشركات النقل والتوصيل فقدت دقة الملاحة والخرائط. وبعض شبكات الاتصالات والكهرباء تعتمد على إشارات الأقمار الصناعية للمزامنة الزمنية، ما يجعلها قابلة للاضطراب والانقطاع.
تقرير لمنظمة الطيران المدني (ICAO) أشار إلى أن العراق أصدر تنبيهات (NOTAMs) تحذر الطيارين من احتمال تداخل إشارات الملاحة فوق بغداد ومناطق أخرى، ما يعني أن التشويش لم يعد حالة محلية محدودة، بل ظاهرة وطنية تهدد البنية التحتية الرقمية للبلاد.
صمت رسمي.. وأسئلة بلا إجابات
حتى اللحظة، لم تصدر هيئة الإعلام والاتصالات أو أي جهة حكومية بياناً يفسّر ما يجري، رغم اتساع الشكاوى من المواطنين وشركات النقل والاتصالات.
ويتساءل الشارع: من يُشوش على بغداد؟ هل هو طرف خارجي يختبر قدراته في السماء العراقية؟ أم جهة داخلية تجري تجارب ميدانية دون تنسيق رسمي؟
