انتحار مدوٍّ وقصة رومانسية تختصر المشهد بالقول إن صاحب “نهر الرماد” وأحد أبرز رواد الحداثة الشعرية العربية، الشاعر اللبناني خليل حاوي، الذي انتحر بطلقة من بندقيّة صيد في 6 حزيران/يونيو من العام 1982، حين رأى الدبابات الإسرائيلية على مشارف بيروت، كان بالتأكيد جزءاً أساسيّاً من مسارٍ حياته الثائرة والذي نعاه الشاعر الفلسطينني محمود درويش قائلاً “خليل حاوي لا يريد الموت رغماً عنه”.
لكن من نافل القولِ إنّ الانتحار ظاهرة معقدة ومربكة حتى لأعتى علماء النفس، ويزيدها تعقيداً أن المنتحر شاعر امتلك – بديهيّاً – حساسية مفرطة تجاه العالم، ومرّ – إضافة إلى ذلك – بتجارب قاسية منذ طفولته وطوال حياته، لذا لن نأخذ بالإجابة البسيطة، ولن ندّعي، في الوقت نفسه،أننا نقدّم إجابة شافية ونهائية لهذا السؤال، ولكنّنا سنحاول أن نسلّط الضوء على جوانب من حياة خليل حاوي وعوامل أدّى تراكمها واجتماعها في لحظة تاريخيّة فادحة، إلى اتخاذ صاحب “بيادر الجوع” هذا القرار الجريء العدميَّ والرافض في آن.
في الليلة الأخيرة (31 كانون الأول/ديسمبر) شديدة البرد من عام 1919 ولد خليل حاوي. لم يكن طفلاً مدلّلاً لعائلة ميسورة ولم يولد في قصر منيف، بل في بيت متواضع لأب يعمل بنّاءً هو سليم حاوي وأمّ ربّة منزل هي سليمة عطايا.
كانت أولى صدمات طفولته وفاة شقيقته الصغيرة التي تعلّق بها بشدّة “أوليفيا” بالحمى، وقبل أن يتعافى من حزنه أصيب والده بمرض في العصب الوركيّ توقّف في إثره عن عمله الشاق في البناء ما ترك العائلة من دون معيل، واضطر خليل إلى ترك دراسته عام 1932 وهو ابن 13 عاماً، ليعمل راصف طرقات في البداية ثمّ إسكافياً، قبل أن ينتقل إلى جبل العرب في سوريا ليعمل هناك في “توريق” المنازل.
مع هذا، لم يتوقف خليل عن طلب العلم. فقد كان يدرس الإنكليزية والفرنسية بعد انتهاء عمله، بل وينشر الزجليات في مجلّة محليّة كانت تصدر في بكفيا. هذه العزيمة على مواصلة طريق العلم أثمرت لاحقاً، فما لبث حاوي أن وجد عملاً يعينه على العودة إلى المدرسة، فحصل بسنة واحدة على البكالوريا عام 1946، والتحق بعدها بـــ “الجامعة الأميركية” في بيروت فنال الإجازة بامتياز في اللغة العربية عام 1951، ثمّ الماجستير بعدها بأعوام، ليسافر إلى بريطانيا للالتحاق بجامعة كامبردج التي نال منها شهادة الدكتوراه عن أطروحة تناولت الأديب والشاعر اللبناني جبران خليل جبران.
إذاً، فقد تمكّن صاحب “الناي والريح” من تجاوز مآسي طفولته وصباه وحقّق بجهده ما طمح إليه، ولكنَّ هذا النجاح لم يكن من دون ثمن، فقد ترك الماضي فيه ندوباً عميقة عاشت معه طوال عمره؛ يذكر الكاتب والناقد اللبناني جهاد فاضل أنهُ سمع حاوي مراراً في آخر سنوات حياته يقول متحدّثاً عن شقيقته الراحلة أوليفيا: “غريب أمر هذه الطفلة! ما زلت إلى اليوم أترقب عودتها وهي لا تأتي، أين أنت يا أوليفيا؟”.
“منذ اللحظة الأولى التي دخل فيها أستاذ مادة النقد الحديث إلى غرفة الصف، بدا لنا شخصاً مختلفاً عن سواه، إذ كانت حركات جسده ويديه تنمّ عن توتر وعصبية باديين، فيما لم تكن عيناه تحدقان في مكان معلوم، بل تسبران غور المجهول، وتعكسان كل ما يعتمل في داخله من مشاعر الغربة والقلق”.
هكذا يصف الشاعر اللبناني شوقي بزيع لقاءهُ الأوّل بأستاذه خليل حاوي أثناء دراسته في كليّة التربية التابعة للجامعة اللبنانية.
هذا القلق بدا أوضح ما يكون في شعر حاوي العالق أبداً في جدليّة بين الحقل المعجميِّ للموت والعدم والخراب، وبين الحقل المعجمي للقيامة والانبعاث والفداء. المناخ السوداوي التموزي لشعره كان انعكاساً لذاته المشغولة بالهموم الكبرى والقضايا المصيريّة. آمن خليل حاوي بأثر الشاعر ودوره، وكان يرى أنه يحمل مسؤولية كبيرة تجاه نفسه وقضيته وأمته، وكان قلقاً دائماً من ألّا يكون على قدر هذه المسؤولية.
هذا القلق وصل به في آخر حياته، على ما يذكر مقربون منه، إلى ما يشبه الجنون، كما دفعه إلى محاولة الانتحار 6 مرات قبل أن تنجح المحاولة الـ7 في تلك الليلة المشؤومة.
يرى البعض أن القاصّة العراقية ديزي الأمير ساهمت بشكل مؤثّر في دفع حاوي إلى الانتحار، وقيل إنها لم تكفّ أذاها عنه حتى بعد موته، فقد نشرت رسائله لها في كتاب أواسط ثمانينيات القرن الماضي، ولكن بعد حذف أجزاء أساسيّة منها، ما أفقدها قيمتها الأدبية والفنيّة.
كان حاوي قد تعرف إلى ديزي الأمير في لبنان، وحصل بينهما إعجاب متبادل أفضى إلى خطوبة تمهيداً للزواج، وحين سافر حاوي لإتمام دراسته في كامبردج لحقته ديزي وأقامت معه على نية أن يتزوجا بعد عودتهما. ولكنها اكتشفت أنه ليس الزوج المناسب، فعادت إلى لبنان وتزوجت برجل آخر زواجاً لم يدم طويلاً. حاول خليل بعدها أن يصلح العلاقة وعرض على ديزي الزواج مراراً لكنّها رفضت رفضاً قاطعاً. ويرى البعض أن ديزي كانت امرأة عاديّة تبحث عن زوج ثريّ، فيما ظن خليل أنها فتاة أحلامه.
وعموماً، قصة ديزي الأمير ليست خيبة خليل حاوي العاطفية الوحيدة، وإن كانت الأخيرة، فقد سبقتها خيبات عديدة وعلاقات عاطفيّة تنتهي بالأسوأ دائماً، وربما كان تراكمها عاملاً أساسيّاً في وصول حاوي إلى مستوى لا يحتمل من اليأس.
في شبابه المبكر، انتمى صاحب “الرعد الجريح” إلى “الحزب السوري القومي الاجتماعي” عام 1934، أي في السنة الثانية لتأسيسه، وتسلّم مسؤولية مديرية الشوير في الحزب بين عامي 1938 و1940 ثمَّ ما لبث أن ابتعد عن الالتزام القومي السوري، من دون أن يتخلى عن الاحترام الذي كان يكنُّه لمؤسس الحزب ابن بلدته أنطون سعادة.
أصبحت توجهات حاوي بعدها قومية عربيّة، من دون أن يتخلّى عن أسطورته التموزية، أعجب بالرئيس المصري جمال عبد الناصر كثيراً ورأى في مشروعه فرصة انبعاث الأمّة العربية.
من هنا، لا شكّ أن انهيار المشروع الناصري وموت ناصر، وقبله إعدام أنطون سعادة ومشروعه السوريّ، أدّى بحاوي إلى اليأس من الأيديولوجيات العربية، بل حتى من ايديولوجيته الشخصية، فوجد نفسه في آخر لحظاته مهزوماً على شتّى الصعد. ثمّ أتت الضربة القاضية، أو اللحظة المحرّكة لكلِّ شيء، في ليلة ساخنة من ليالي صيف بيروت.
في 6 حزيران/يونيو عام 1982 وفي ذروة الحرب الأهلية اللبنانية، كانت دبابات العدو الإسرائيلي قد اجتاحت معظم مدن الجنوب اللبناني وقراه، ووصلت إلى مشارف بيروت ومحاصرتها.
كان خليل حاوي قادماً من شارع بلِس الموازي للجامعة الأميركية في بيروت. التقى صديقه شفيق عطايا الذي اصطحبه معه إلى منزله، وعند الـ9 ليلًا نزلا ليتمشيا معاً. عند الـ10 عاد خليل إلى منزله في شارع المكحول غاضباً من كلِّ شيء، خرج إلى الشرفة، وفي الـ10.30 تناول بندقية الصيد الفرنسية من طراز سانت إيتيان من خزانته، وأطلق منها رصاصة واحدة على رأسه. وبسبب ضجيج الحرب تلك الليلة، لم يعرف الجيران بالحادثة حتّى صبيحة اليوم التالي، حيث وجدوا جثة جارهم الشاعر والأستاذ الجامعي مكوّمة على شرفته غارقة بدمه.