منذ إزاحة نظام البعث المجرم في نيسان من عام 2003، دخلت الأحزاب الحاكمة للعراق في دوامة “السلطة والجماهير”، فبينما تتصارع، وتتقاتل أحياناً، من أجل شارع، أو شركة، أو منصب، أو وزارة، أو حكومة، تستسلم أمام خوفها من إزاحتها كاملاً من السلطة، لتمارس كل أنواع القمع والإرضاء وتحميل الدولة تبعات كارثية فقط من أجل البقاء.
وبدلاً من أن يدفعهم “الرهاب من الجماهير” إلى تأسيس دولة متينة وعزيزة ومقتدرة اقتصادية وسياسياً وأمنياًي، انتهجوا سياسة “أمطروها عليهم بالوظائف حتى يسكتوا، فالراتب الشهري يصون وجودنا في السلطة”، لكن الدولة بجميع أركانها “تتدحرج نحو الانهيار التام”، وفق ما يقول مختصون وسياسيون عديدون.
وقبل يوم، تعرض العشرات من خريجي المهن الطبية والصحية إلى عنف مفرط من قبل القوات الأمنية بعد خروجهم في تظاهرة كبيرة أمام المنطقة الخضراء للمطالبة بسن القوانين والقرارات التي تتيح لهم ضمان التعيينات الحكومية في مختلف الوزارات، الأمر الذي يراه اقتصاديون بأنه “مطلب مدمر – لا يوجد غيره- لكن الدولة تتعامل معه بوصفه استثماراً لوجودها السياسي فحين يتم تلبيته فهذا يعني ضمان زيادة الأصوات في الانتخابات”.
العراق يغرق بالوظائف
ووفقاً لبيانات رسمية، فإن عدد موظفي الدولة في جميع المحافظات بما فيها إقليم كردستان، يبلغ أكثر من أربعة ملايين موظف، لتمثل نسبة 14 بالمئة من مجموع سكان العراق البالغ نحو 43 مليون نسمة، وهي نفس نسبة عدد الموظفين في الولايات المتحدة التي يتجاوز عدد سكانها 331 مليون نسمة.
وبلغ حجم موازنة العراق الخاصة بالعام 2024 تريليون دينار، حيث بلغ الإنفاق التشغيلي نسبة 74% من حجم الموازنة المعتمدة بنحو 95% على واردات الصادرات النفطية، في حين بلغ الإنفاق الاستثماري 55 تريليون دينار تشمل 1321 مشروعاً، 470 مشروعاً منها متلكئة التنفيذ بسبب قلة التخصيصات المالية.
وعلى تداعيات تضخم أعداد الموظفين في العراق، يقول الخبير الاقتصادي ناصر الكناني، لـ”إيشان”، إن “التعيينات الحكومية الحالية تتطلب تخصيصات وتحديد رواتب من وزارة المالية”، مشيراً إلى أن “هذه التعيينات تذكرنا بالسندات الوهمية التي تم توزيعها خلال فترات انتخابية سابقة”.
وأوضح الكناني أن” فتح أبواب التعيين دون وجود آلية واضحة يشبه تلك السندات التي كانت تهدف إلى التأثير على العملية الانتخابية”.
وتابع أن “إغراق العراق بالتعيينات الحكومية يمكن أن يؤدي إلى كارثة لا تحمد عقباها، وإن مواجهة احتجاجات الشباب بالتعيين وزجهم في وظائف غير منتجة هو تدمير للطاقات الشبابية لذا يجب المضي بسن قوانين تهيئ لقاعدة اقتصادية صحيحة تستثمر الطاقات الشبابية بمشاريع منتجة حسب الاختصاصات”.
وأضاف الكناني أن “تفعيل القطاع الخاص هو السبيل للتخلص من العديد من المشكلات الاقتصادية”، مشيراً إلى أن “العراق يستورد سنوياً ما لا يقل عن 60 مليار دولار من بضائع متنوعة مثل الخضروات والفواكه والملابس والأحذية والأثاث، وإن هذا الاستيراد المفرط يضر بالمهن المحلية مثل الصناعات اليدوية ومهنة الخياطة والجلود، التي كانت في وقت سابق من بين أفضل الإنتاجات العراقية”.
وأشار الكناني إلى أن “تدمير القطاع الخاص جاء نتيجة للإجراءات غير المقصودة من قبل الدولة، التي فتحت أبواب الاستيراد دون حماية كافية للقطاعات الزراعية والصناعية”.
وأكد أن “المصانع التي كانت تساهم بنسبة 15% في إيرادات الموازنة توقفت بالكامل بسبب فتح الاستيراد بشكل أضعف من الإنتاج المحلي”.
معضلة الأطباء والخريجين
وفي العراق، يتخرج سنوياً آلاف الطلبة من مختلف الكليات التخصصية بمجال الطب والأسنان والمهن الطبية وغيرها من مختلف الاختصاصات، وهم علاوة على دفع الأقساط السنوية في الكليات الأهلية، فهم يجدون أنفسهم عاجزين بعد التخرج على الولوج في أي مشاريع مدرة للدخل، ليتجهوا صوب الاحتجاج فيمارسوا من خلاله أعلى الضغوط على الحكومة، التي تذهب في الأخير نحو توظيفهم في القطاع الحكومي، وبذلك فإن الدولة هناك تثقل كاهل الموازنة التي تعتمد بشكل شبه كلي على أسعار النفط، وهو أمر قد يعرض البلد لمطب اقتصادي خطير، في حالة هبوط أسعار النفط العالمية.
وترى نقابة الصيادلة أن “مشكلة الخريجين من الكليات الطبية وذوي المهن الصحية تكمن في أن نسبة قليلة منهم يمكنهم فتح مشاريع خاصة بتمويل ذاتي، بينما الغالبية العظمى منهم ينتمون إلى الطبقات الفقيرة ويسعون لتأمين مستقبل أفضل لأنفسهم ولعائلاتهم، من خلال الوظائف”.
ويشير المتحدث باسم النقابة أسامة السلامي إلى أن “القطاع الخاص يمكن أن يلعب دوراً مهماً في توفير فرص العمل للخريجين من خلال توفير مشاريع متوسطة وصغيرة بميزانيات ميسورة، مع التركيز على أن يكون العقد مع القطاع الخاص لتمويل المشروع، بينما يتولى الخريج الإدارة والجهد”.
ودعا السلامي إلى “ضرورة وجود قوانين أو تشريعات تدفع القطاع الخاص لاستيعاب الخريجين وتوفير مستقبل آمن لهم، كما يجب أن تتخذ الدولة والحكومة خطوات فعالة لتوسيع الميزانية لاستيعاب الخريجين، أو تشجيع القطاع الخاص لتوظيفهم، أو تقديم قروض ميسرة لهم لبدء مشاريعهم الخاصة”.
تحذير من فورة تشرين
وتعليقاً على ما شهدته بغداد من تظاهرات لمختلف الفئات من الخريجين والموظفين، من الذين يطالبون بالتعيينات أو تعديل سلم الرواتب، وما تشهده بعض المحافظات من احتجاجات لمختلف موظفي القطاعات النفطية والحكومية، وكذلك الحراك الشبابي في محافظات الوسط والجنوب، يحذر السياسي وائل عبد اللطيف من أن “مواجهة الاحتجاجات بالعنف قد يقود العراق إلى احتجاجات كبيرة خصوصا وأن احتجاجات الفئات الشبابية تأتي بالتزامن مع ذكرى انطلاق تظاهرات تشرين”.
وتابع أن “الدولة لم تعد قادرة على استيعاب أعداد الخريجين وزجهم بالوظائف الحكومية، وهذا ما يحتم على الحكومة صناعة بيئة استثمارية واقتصادية تؤمن للشباب صناعة مشاريع متنوعة تغنيهم عن المطالبة المستمرة بالتعيينات”.
وأضاف: “يجب على البرلمان والكتل السياسية إدراك أهمية سن قانون الاستثمار والذهاب نحو تشريع الفقرات داخل مجلس النواب، بما يضمن تشغيل الشباب الخريجين والعاطلين عن العمل ممن وجدوا أنفسهم بمواجهة دولة ريعية لا يمكن مواجهة متطلبات الحياة فيها إلا من خلال الوظائف”.
النظام فاقد للثقة بنفسه
ويقول الصحفي الكاتب محمد غازي الأخرس، لـ”إيشان”، إن “ذهاب الحكومات على كسب رضا الخريجين والشباب والعاطلين عن العمل من خلال الوظائف، هو سياق سياسي معتمد منذ العام 2003 لمواجهة الجماهير الناقمة والغاضبة من ما يتعرض له العراق”.
وتابع الأخرس قائلاً: “النظام السياسي في العراق فاقد للثقة بنفسه، وذلك بسبب فشله المستمر منذ 20 عاماً، حيث عجز عن تأسيس نظام اقتصادي صحيح ينقذ الشباب من المجهول، ويضعهم على سكة بناء المشاريع المتنوعة كما هو الحال في جميع الدول المتقدمة”.
ويبين أن “فتح باب التعيينات أمام الفئات الغاضبة، هو تعبير عن عجز الحكومة عن توفير البديل، ومحاولة لإسكات الأصوات التي تطالب بنهضة استثمارية وعمرانية وخدمية في العراق، والابتعاد عن رهن مقدرات البلد النفطية والاقتصادية لصالح الجهات المتنفذة”.
ويرى أن “القسوة والإرضاء، في التعامل مع مختلف الاحتجاجات يؤدي إلى نتائج سلبية، فقمع الاحتجاجات من جهة، خشية من أن تكبر الاحتجاجات أمر مؤسف وقد يقود إلى أحداث تشبه ما حصل في عام 2019″، مبينا أن “النظام السياسي يعتمد القمع خشية من الحراك الجماهيري الذي قد يتسبب بمزيد من التصدع والانقسامات السياسية”.
“دلالة هياج الجماهير مرتبطة بتواريخ رمزية، وقد يعزز اقتراب تاريخ 25 تشرين الأول من الشعور بالثقة المعنوية والنفسية لدى الجمهور الناقم، مما قد يشجع على تكرار ما شهدناه في تشرين عام 2019، إن هذا التوقيت يسبب خوفاً مضاعفاً للسلطة، ويشجع الجماهير على التعبير عن مطالبهم من خلال التظاهرات”، يقول الأخرس.