قبل أيام من الذكرى الثانية لهجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، أعلنت حركة حماس في غزة قبولها خطة أمريكية لوقف القتال. غير أن المشهد الإقليمي بعد عامين من تلك الهجمات يبدو مختلفًا تمامًا، إذ أعادت الحرب رسم خريطة التوازنات في المنطقة، ودفعت باتجاه تحوّلات عميقة في مواقع القوى الإقليمية.
لبنان
في لبنان، تتيح جولة في الضاحية الجنوبية لبيروت معاينة حجم الدمار الناتج عن القصف الإسرائيلي المتواصل طوال العام الماضي. فقد استُهدفت مواقع عسكرية وأمنية ومالية تابعة للتنظيم المسلّح في الجنوب والبقاع الغربي، وتعرّض عدد من قياداته لعمليات اغتيال متتالية، ما أدى إلى تراجع قدراته الميدانية وانسحابه إلى مناطق أبعد شمالي نهر الليطاني.
دخل اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ أواخر نوفمبر/تشرين الثاني، ونصّ على سحب العناصر وتفكيك المواقع العسكرية وتسليم بعض المرافق للحكومة اللبنانية. ومنذ ذلك الحين، تواصل الطائرات الإسرائيلية قصف أهداف داخل الأراضي اللبنانية بذريعة مراقبة تنفيذ الاتفاق، فيما يلتزم الطرف الآخر بوقف الرد العسكري منذ سريانه.
في المقابل، لا تزال إسرائيل تحتفظ بخمسة مواقع داخل الجنوب اللبناني، وتربط انسحابها الكامل بتنفيذ ما تبقّى من بنود الاتفاق.
في الوقت نفسه، تشهد مناطق واسعة من الجنوب والبقاع عمليات نزوح وإعادة إعمار محدودة، وسط أزمة سياسية داخلية تتعلّق بمستقبل السلاح ودور التنظيم في المعادلة اللبنانية.
سوريا
على الضفة الأخرى من الصراع، أدّى سقوط النظام السوري في ديسمبر/كانون الأول 2024 إلى إنهاء الوجود العسكري الإيراني والميليشيات الموالية له داخل سوريا. ومع الانهيار السريع لمؤسسات الدولة، شنّت الطائرات الإسرائيلية غارات مركّزة دمّرت ما تبقّى من مواقع الجيش السوري ومنظومته الصاروخية، واحتلت مناطق عازلة على طول الجولان، متقدّمة نحو جبل الشيخ حتى تخوم العاصمة دمشق.
النظام الانتقالي الجديد سعى إلى طمأنة جيرانه، إلا أن الشكوك الإسرائيلية ما تزال قائمة، مع اتهامات بمحاولات لاستبدال النفوذ الإيراني بنفوذ تركي في الشمال السوري.
تسببت هذه التطورات في تصاعد التوتر داخل المحافظات الجنوبية السورية، خاصة السويداء، حيث اندلعت احتجاجات ذات طابع انفصالي رفعت خلالها أعلام إسرائيل في مشهد غير مسبوق. ورغم استحالة تنفيذ مشاريع الانفصال فعليًا، فإن هذا التحوّل يعكس حجم التشظي الداخلي الذي خلّفته سنوات الحرب وتبدّل الولاءات الإقليمية.
في ظل هذا الانقسام، تزايدت المؤشرات على اتجاه سوريا نحو خرائط نفوذ جديدة تقوم على أقاليم متمايزة طائفيًا وجغرافيًا.
إيران
بعد تحييد الجبهتين اللبنانية والسورية، اتجهت إسرائيل في منتصف 2025 إلى مواجهة مباشرة مع إيران.
استمرت الحرب اثني عشر يومًا، تخللها قصف متبادل بالصواريخ البعيدة المدى وعمليات اغتيال استهدفت علماء ومسؤولين عسكريين في الداخل الإيراني. وأُعلن عن تدمير معظم الدفاعات الجوية والمنشآت النووية الإيرانية خلال تلك الهجمات.
قطر
لم تتوقف الغارات الإسرائيلية عند حدود إيران. ففي سبتمبر/أيلول من العام نفسه، طال القصف العاصمة القطرية الدوحة في هجوم استهدف قيادات من حركة فلسطينية، وهو أول قصف من نوعه لدولة خليجية منذ اندلاع الحرب.
وأدّت الواقعة إلى تجميد الوساطة القطرية مؤقتًا قبل استئنافها لاحقًا بعد اتصالات مباشرة بين الطرفين.
مزيد من العنف
يتابع المؤرخ الإسرائيلي اليساري المعارض للصهيونية، آفي شلايم، من منفاه الاختياري في مدينة أكسفورد البريطانية بقلق كبير مستقبل المنطقة في ظل سياسات الحكومة الإسرائيلية اليمينية. ويقول لبي بي سي إن “الهدف الإسرائيلي هو تغيير الجغرافيا السياسية للمنطقة، لذا فإن إسرائيل تشن حرباً إقليمية، ليس فقط ضد حماس، وإنما ضد جميع جيرانها وخصومها لتحقيق الهيمنة العسكرية في المنطقة”.
ويرى شلايم أنه نتيجة لهذه السياسة “فمن غير المرجح أن تنضم السعودية إلى اتفاقيات التطبيع (اتفاقات أبراهام)، ومن الواضح أيضاً أن الدول التي وقّعت على هذه الاتفاقيات، تشعر الآن بغضب شديد من سلوك إسرائيل، ولا تملك إمكانية التراجع عنها”.
ويؤيد الكاتب اللبناني حازم صاغية توقعات شلايم من أن “إسرائيل الحالية تسير باتجاه مزيد من العنف والإخضاع”. لكنه يرى أن إسرائيل “تتكبّد هزائم معنوية كبرى رغم انتصاراتها العسكرية، بالنظر إلى تراجع صورتها عالمياً”.
ومع دخول المنطقة العام الثالث على هجمات السابع من أكتوبر، يبدو واضحاً أن ما كان يعرف بمحور المقاومة قد تلقّى ضربات موجعة، تركته يترنح، ولكنه لم يعلن هزيمته بعد. وبالمقابل تنتصر إسرائيل عسكرياً، وتبدو مستعدة لمواصلة حربها على عدة جبهات، لكن تحويل هذا النصر إلى مكاسب سياسية لا يبدو بالأمر اليسير، فما تؤكده زيارة المنطقة أن ما خلّفته هذه الحرب من قتل ودمار ومآسٍ وغضب وكراهية سيحتاج عقوداً لتجاوزه، ومن المتوقع أن يظل يغذي دوامة العنف التي تشهدها المنطقة لأجيال جديدة.
