“من هي تلك العصابات الإرهابية التي تدخل البيوت وتطلق النار على العشرات؟”
يتساءل الإعلامي السوري الشهير فيصل القاسم، في منشورٍ يقطر وجعًا وقلقًا، بعد أيام دامية عاشتها مدن وقرى محافظة السويداء، المعقل الرئيسي للطائفة الدرزية في سوريا. يضيف القاسم بانفعال: “من هم هؤلاء البرابرة والمغول الذين يقتلون الأطفال أمام عائلاتهم؟ من الذين ينهبون ويحرقون ويذلّون الشيوخ؟”.
اللافت أن هذه الصرخات تأتي من إعلامي لطالما اشتهر بخطابه الناري وتحريضه الصريح على القتل الطائفي، خاصة حين كان الحديث يدور عن قرى وبلدات علوية، أو عن جماعات تنتمي لمكونات دينية وعرقية مخالفة. لكنه اليوم، وقد وصلت النار إلى عتبة أهله، يبدو مربكًا في مواجهة مرآته.
فمن جهة، القاسم هو الدرزي الذي يشاهد أبناء طائفته يسقطون قتلى ويُطاردون من بيت إلى بيت في هجمات ينفذها مسلحون مدعومون من قوى نافذة في السلطة الجديدة. ومن جهة أخرى، هو الإعلامي الذي صفّق بحرارة لمجازر مماثلة حين طالت علويين في الساحل السوري، وسخِر من الضحايا، واعتبر أن “العدالة الثورية” لا تنجزها سوى الدماء.
جنوب سوريا يشتعل
في الأيام الماضية، اندلعت مواجهات مسلحة عنيفة في محافظة السويداء بين مقاتلين دروز وعشائر بدوية، أوقعت بحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان” ما لا يقل عن 89 قتيلًا، بينهم ستة من عناصر القوات السورية. الشرارة الأولى كانت عملية خطف متبادلة، تطورت سريعًا إلى عمليات اقتحام للبيوت، ونهب، وقتل على الهوية.
رغم إعلان منصة “السويداء 24” عن إطلاق سراح المختطفين من الطرفين، إلا أن المشهد الميداني ظل متوترًا، واستمرت الاشتباكات في بعض القرى، وسط انتشار عسكري متسارع للقوات النظامية السورية في محاولة لاحتواء التدهور. لكن جذور الأزمة تعود إلى اشتباكات سابقة اندلعت في نيسان/أبريل بين الدروز وقوات أمنية مدعومة من مسلحين سنة من العشائر، وأسفرت حينها عن أكثر من 100 قتيل.
من التحريض إلى الصراخ
في عزّ احتدام المعارك في الساحل السوري قبل أشهر، كانت منشورات فيصل القاسم تمتلئ بالسخرية من “العلويين الهاربين”، وبتبرير المجازر تحت يافطات طائفية. لم يُخفِ شماتته، بل كرّس لغته في برنامج “الاتجاه المعاكس” ومنصاته الخاصة لتأجيج الغرائز الطائفية، والتقليل من شأن الضحايا، حتى أولئك المدنيين منهم.
لكن حين دارت عجلة القتل، ووصلت إلى السويداء، صار الصوت ذاته يستصرخ الضمير، ويطالب بالتصدي الفوري، ويستغرب من “عصابات خارجة على القانون تعبث بسوريا”، رغم أن كثيرًا من هذه العصابات نفسها نال دعمه الصريح أو غير المباشر في السابق.
في منشوراته الأخيرة، لجأ القاسم إلى حيلة الطرف الثالث، فقال: “سنعتبرهم عصابات مارقة خارجة على القانون أو طرف ثالث يعادي الشعب والدولة معاً”، ثم دعا إلى مواجهتهم “بكل أنواع الأسلحة”. هنا، لا يحاول الإعلامي تفسير الواقع، بل الهرب منه، عبر خطاب مائع لا يجرؤ على تسمية من دعّمهم سابقًا حين صاروا أعداءً فعليين لطائفته.
مجزرة العلويين
في آذار/مارس الماضي، كشفت وكالة “رويترز” عن مجازر مروعة ارتُكبت بحق الطائفة العلوية في الساحل السوري بين 7 و9 مارس، راح ضحيتها 1479 شخصًا في 40 موقعًا، مع عشرات المفقودين. التحقيق الذي أجرته الوكالة استند إلى مقابلات مع أكثر من 200 عائلة، ومسؤولين ومقاتلين، وتسجيلات صوتية ومقاطع مصورة وشهادات ميدانية. المسؤولية لم تقع فقط على ميليشيات منفلتة، بل وصلت خيوطها إلى دوائر قريبة من السلطة السورية الجديدة.
في تلك المجازر، سُحل مدنيون، نُهبت بيوتهم، حُرقت قرى بأكملها، وكُسرت الصلبان في الكنائس، ودُنست مقامات دينية، فيما صمت فيصل القاسم، أو ضحك، أو ساهم بتبرير هذه الجرائم، ما دامت تطال “أعداء الثورة”، في سرديته الطائفية الضيقة.
“ذق ما كنت تفعل”
لم تمرّ مواقف القاسم الأخيرة دون رد. على مواقع التواصل، انتشرت تعليقات لاذعة تذكره بمواقفه السابقة. كتب أحدهم: “هل ما زلت تريد خوزقة العلويين أم أنك أدركت أن جميع الطوائف في خطر؟”. وقال آخر: “كم حرضت على قتل العلويين والشيعة، والآن تصرخ حين وصلتك النار”.
بينما كتب مدوّن: “الدكتور مو عرفان مين العصابات؟ يا ريت رجال الدين العلويين والمسيحيين يخبروه. هو نفس اللي دعم كسر تماثيل الكنائس وأضرحة الأولياء… لعلّه يتذكّر”.
الإعلام حين يُسلّح
ما فعله فيصل القاسم، ومن يشبهه من الإعلاميين المؤدلجين، ليس مجرد تعبير عن الرأي، بل تسليح للكلمات وتحريض مباشر على القتل والاقتتال. الإعلام، في لحظات الانقسام العميق، قد يتحول إلى سلاح أخطر من الرصاص، لأنه يمنح الشرعية للدم، حين يُسكب على الضفة الخطأ.
أما حين يتحول القاتل إلى جارٍ، والمجزرة إلى خبرٍ عائلي، فلا تنفع صرخات الاستغاثة. فالحريق حين يُشعل في بيت الغير، لا يسأل عن دين أو طائفة حين تعصف به الريح.