شهدت ناحية التون كوبري، الواقعة شمال محافظة كركوك، توترات ملحوظة خلال الأسبوع الجاري، على خلفية تغييرات إدارية أثارت غضب المكوّن التركماني في المنطقة. ووسط تصاعد الاحتجاجات، دخلت أنقرة على خط الأزمة بتصريح اعتبره مراقبون تدخلاً مباشرًا في الشأن المحلي العراقي، ما أعاد إلى الواجهة جدل علاقة تركيا بتركمان العراق، والدور الإقليمي الذي تمارسه عبر هذه القومية.
انطلقت شرارة التوترات عقب قرار إداري بتغيير مديرة بلدية التون كوبري، وهي كردية القومية، وتكليف بديلة عنها من بلديات كركوك، تنتمي أيضًا إلى القومية الكردية. القرار أثار حفيظة الجبهة التركمانية العراقية وأنصارها، الذين اعتبروا الخطوة تجاهلًا لتركيبة الناحية السكانية، التي يصفونها بأنها ذات “غالبية تركمانية”.
وعلى أثر ذلك، خرج العشرات من أنصار الجبهة التركمانية في تظاهرات يومي الاثنين والخميس، تخللتها اعتصامات وقطع الطريق الرئيس الرابط بين كركوك وأربيل، وإشعال إطارات احتجاجًا على القرار. وطالب المتظاهرون بمنح إدارة البلدية إلى شخصية تركمانية، معتبرين أن الإجراء “إقصائي” و”غير متوازن”.
ورغم تدخل قوات الأمن المحلية لفتح الطريق وإعادة الهدوء المؤقت، إلا أن أجواء التوتر لا تزال مخيمة على المنطقة.
أنقرة تدخل على الخط
لم تمضِ ساعات على تصاعد الاحتجاجات حتى أصدرت وزارة الخارجية التركية بيانًا أعربت فيه عن “القلق البالغ” إزاء ما وصفته بـ”التطورات الجارية في كركوك”، مطالبة بتمثيل “منصف” للتركمان في المؤسسات الرسمية.
وقال المتحدث باسم الوزارة، أونجو كتشالي، عبر منصة “إكس”، إن تعيين مدير غير تركماني لبلدية التون كوبري، “تسبب بشكل مبرر في استياء المجتمع التركماني”، مشيرًا إلى أن “تمثيل التركمان بشكل مناسب في السياسة العراقية وبنية الدولة هو مطلب أساسي لتركيا”.
وأضاف أن أنقرة تعتبر كركوك “نموذجًا للتنوع القومي والديني”، وأن الحفاظ على استقرارها يصب في مصلحة “استقرار العراق بأسره”.
جاء تعليق الخارجية التركية ليمثّل، وفق مراقبين، تدخلًا سياسيًا مباشرًا في إدارة ملف محلي ضمن السيادة العراقية، ما أعاد التذكير بالدور الذي تمارسه أنقرة تاريخيًا في المناطق التي تضم الكتلة التركمانية، وخصوصًا كركوك والتون كوبري وتلعفر.
فمنذ عام 2003، تبنّت تركيا استراتيجية تقوم على حماية الهوية التركمانية داخل العراق، بوصفها امتدادًا قوميًا وثقافيًا للهوية التركية. وقد دعمت أنقرة سياسيًا الجبهة التركمانية، ووفّرت لها دعمًا لوجستيًا وتعليميًا وإعلاميًا، واعتبرت قضية كركوك “خطًا أحمر” لا يمكن تجاوزه، لا من قبل بغداد ولا أربيل.
إلا أن هذه السياسات كثيرًا ما تُفسّر عراقيًا على أنها وصاية غير مباشرة، خصوصًا حين تتعلّق بتعيينات بلدية أو مؤسساتية تُدار محليًا.
ورغم اللغة الدبلوماسية المستخدمة، فإن مضمون التصريح يُفهم ضمنيًا على أنه رفض تركي لتغييب التركمان من المواقع الإدارية، وخصوصًا في المناطق المتنازع عليها.
انقسام داخل بيت التركماني
لكن التدخل التركي، رغم تبنّيه من قبل بعض الفئات، لا يلقى الإجماع داخل الطيف التركماني نفسه، خصوصًا بين التركمان الشيعة في طوزخورماتو، الذين يشعرون بأن أنقرة تُركّز على التركمان السنّة وتتعامل مع الملف التركماني بمنظور قومي ضيّق. كما أن هناك أصواتًا تركمانية مستقلة بدأت تطالب بالتحرر من “الوصاية الإقليمية”، وضرورة بناء تمثيل ذاتي بعيد عن المحاور.
بين من يراه قلقًا مشروعًا على أقلية قومية تربطها روابط لغوية وتاريخية مع تركيا، ومن يعتبره تدخلاً سياسيًا في إدارة شأن محلي عراقي، يبقى الموقف التركي تجاه كركوك محورًا دائمًا للجدل الإقليمي، في مدينة تُعدّ من أكثر المناطق تعقيدًا من حيث التكوين العرقي والامتداد الجيوسياسي.
وبين كل ذلك، لا تزال كركوك تدفع ثمن صراعات الهويات المتنافسة، حيث تُختزل الأزمات الإدارية في صراعات قومية مدفوعة بمصالح خارجية، بدلًا من أن تُحل بمنطق المواطنة والتمثيل المحلي المتوازن.