اليوم، توفي هينري كيسنجر، الذي ترك أثراً لا يُنسى في السياسة الخارجية الأميركية، بعدما أدى دوراً في الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت 8 سنوات، ثم صار له يد في الأحداث التي شهدها العراق في تلك الفترة.
ولد كيسنجر، واسمه الكامل هاينز ألفريد كيسنجر، من عائلة يهودية في فورث بألمانيا في 27 مايو 1923، وانتقل إلى الولايات المتحدة مع عائلته عام 1938، وبتغيير اسمه إلى هنري، أصبح مواطناً أمريكياً عام 1943، وخدم في الجيش الأميركي خلال الحرب العالمية الثانية في أوروبا، ودرس في جامعة هارفارد بعد حصوله على منحة دراسية، وحصل على درجة الماجستير عام 1952 والدكتوراه عام 1954.
وفي عام 1973، تقاسم كيسنجر جائزة نوبل للسلام مع نظيره الفيتنامي الشمالي لو دوك ثو لتوصلهما إلى اتفاق لإنهاء حرب فيتنام. وقالت لجنة نوبل إن الاتفاق، الذي تم التوقيع عليه يوم 27 يناير/كانون الثاني 1973، “جلب موجة من الفرح والأمل بالسلام في العالم أجمع”.
وخلص تحقيق أجراه موقع إنترسبت عام 2023 إلى أن كيسنجر -الذي ربما كان أقوى مستشار للأمن القومي في التاريخ الأميركي والمهندس الرئيسي لسياسة الحرب الأميركية في جنوبي شرقي آسيا من عام 1969 إلى عام 1975- كان مسؤولا عن مقتل عدد أكبر من المدنيين في كمبوديا مما كان معروفًا سابقًا، استنادا إلى أرشيف حصري للوثائق العسكرية الأميركية والمقابلات مع الناجين الكمبوديين والشهود الأميركيين.
وكذلك تسهيل عمليات الإبادة الجماعية في كمبوديا وتيمور الشرقية وبنغلاديش؛ وتسارع الحروب الأهلية في الجنوب الأفريقي؛ ودعمه الانقلابات وفرق الموت في جميع أنحاء أميركا اللاتينية، وإن يديه ملطخة بدماء ما لا يقل عن 3 ملايين شخص، وفقا لـ”إنترسبت”.
وقال المدعي العام المخضرم في جرائم الحرب ريد برودي للصحيفة إن “هناك عددا قليلا من الأشخاص الذين كانت لهم يد في هذا القدر من الموت والدمار والمعاناة الإنسانية في العديد من الأماكن حول العالم مثل هنري كيسنجر”.
وفي السنوات الأخيرة من حياته، تقيّدت رحلات كيسنجر بسبب محاولات دول أخرى لاعتقاله أو استجوابه بشأن سياسات الخارجية الأميركية السابقة.
وبينما وصفته وكالة الصحافة الفرنسية بأنه عملاق الدبلوماسية الأميركية، ذكرت رويترز أن كيسنجر الحائز على جائزة نوبل للسلام ترك بصمة لا تمحى على السياسة الخارجية الأميركية، خاصة لجهوده في 3 مجالات هي إخراج أميركا من حرب فيتنام، وفتح العلاقات الدبلوماسية مع الصين، وتقليل التوترات مع الاتحاد السوفياتي. ولعقود من الزمن بعد ذلك، أكسبه العمل مع الرئيسين نيكسون وجيرالد فورد دور رجل الدولة الأكبر في الحزب الجمهوري عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية.
كيسنجر والعراق
باستخدام “السياسة المكوكية”، سطع نجم وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، بعد حرب عام 1973، وكان “رجل السلام” الذي أفضت جهوده إلى توقيع معاهدة بين مصر وإسرائيل لاحقا، وكان له مواقف عدة حول قضايا منطقة الشرق الأوسط والعراق.
*الحرب العراقية الايرانية
تتطرق الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل للجانب السلبي من شخصية كيسنجر، بين فصول كتابه “الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق” الصادر عن دار الشروق.
يقول هيكل: “وكان العراق ـ أولا وأخيرا ـ طرفا رئيسيا في قضية تكدس السلاح في منطقة الشرق الأوسط، لأن الولايات المتحدة اعتبرت أن الثورة الإسلامية في إيران التي أطاحت بنظام الشاه ـ وهو أقرب الأصدقاء إلى أمريكا وإسرائيل ـ ضربة قاسية لها، ومن ثم فإنها لم تدخر جهدا في تسهيل تسليح العراق حتى يستطيع صد المد الإسلامي الإيراني، ومعاقبة ثورة الخُميني وجموحها الجارف”.
وعن النوايا غير الطيبة، يشير هيكل إلى أن الحاصل أن الاستراتيجية الأمريكية سعت إلى ضرب إيران بالعراق، والعراق بإيران، وقصدها استهلاك قوة بلدين لا يمكن الاطمئنان إليهما معا على المدى الطويل.
وكانت تلك السياسة هي التي سميت فيما بعد بسياسة “الاحتواء المزدوج”، وقد عبر عنها هنري كيسنجر: “هذه أول حرب في التاريخ أتمنى أن لا يخرج بعدها منتصر، وإنما يخرج طرفاها وكلاهما مهزوم!”.
كما قال هنري كيسنجر في السابق لما اشتدت الحرب بين العراق وإيران في بداية الثمانينات، ان الهدف الذي نحاول الوصول اليه من جراء هذا النزاع يكمن في القضاء على من نعتبرهما قوتان معاديتان لأمريكا لا نحب لا العراق ولا إيران كلاهما عدو لمصالحنا الاستراتيجية في المنطقة وفي العالم بأسره بناء على النظرية التي تقول إن جغرافيا العالم الاقتصادي كتلة واحدة في مفهوم السياسة الامريكية الخارجية. وهذا معروف منذ نشأة دولة الولايات المتحدة الامريكية في العصر الحديث.
*غزو العراق
وبعد دخول الولايات المتحدة وحلفائها العراق عام ٢٠٠٣، عقد كيسنجر اجتماعات مع الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش الابن، ونائبه، ديك تشيني، لتقديم المشورة لهما بشأن السياسة هناك، حسبما ذكرت “بي بي سي”.
وقال لهما إن “الانتصار على التمرد هو استراتيجية الخروج الوحيدة”.
وفي حديثه عن الحرب في العراق على وجه التحديد، قال كيسنجر لصحيفة “نيويورك تايمز”، بعد ذلك بعام إن بوش “أراد تحويل العراق إلى نموذج لإمكانية التطور الديمقراطي داخل العالم العربي”، وفق ما ذكرته وكالة “أسوشيتد برس”.
*بعد 2003
وفي مقال بصحيفة واشنطن بوست تحت عنوان “لا تنسوا العراق” نشر عام 2010، حذر كيسنجر مما وصفه بإهمال العراق، ودعا إدارة الرئيس باراك أوباما آنذاك إلى التركيز على العراق باعتباره محورا إستراتيجيا في المنطقة.
وقال كيسنجر إن الإدارة الأميركية تراجعت خلال سنتها الأولى عن طرح الأهمية الإستراتيجية للعراق وعلاقة أميركا بها للنقاش.
آخر توقعات كيسنجر
وقبل وفاته بعدة أشهر، وتحديداً في مطلع شهر آيار/مايو الماضي، تحدث كيسنجر عن العديد من التوترات الحالية حول العالم، ومخاطر الذكاء الاصطناعي في حالات الأزمات، ورأيه بشأن سجله الحافل خلال مراحل حياته السياسية التي شهدت السلام والحرب.
ومع بدء اللقاء تم سؤال كيسنجر أنه في حال طلب منه زيارة روسيا للتحدث مع الرئيس فلاديمير بويتن، ماذا ستكون ردة فعله، ليقول إنه يميل للقيام بذلك ولكن بصفة مستشار، مضيفا أن الحرب الأوكرانية تقترب من نقطة تحول هامة.
وفيما يخص الصين، لفت كيسنجر أنه لا يمكن إقصاء الصين من النظام الدولي، ومن الممكن أن تؤدي قضية تايوان إلى حرب بين دولتين عاليتي التقنية (الصين وأميركا) وهذا يتطلب الانتباه، “إنها فترة خطيرة للغاية”.
وفي وقت سابق، حذر هنري كيسنجر من مغبة الدخول في حرب باردة ثانية، معتقدا أنها ستكون أكثر خطورة من الأولى.
وفي لقاء مع صحيفة “إل موندو” الإسبانية، قال كيسنجر: “يمكن أن تبدأ حرب باردة جديدة بين الصين والولايات المتحدة، يتمتع كلا البلدين بموارد اقتصادية متشابهة، وهو ما لم يكن الحال خلال الحرب الباردة الأولى، أصبحت بكين وواشنطن الآن خصمين، ولا يستحق انتظار أن تصبح الصين ذات ميول غربية”.
وفي لقاء آخر سابق، حذر الدبلوماسي الأميركي المخضرم هنري كيسنجر أن رغبة البعض في تفكيك روسيا قد تؤدي إلى فوضى نووية، داعيا لإحلال سلام قائم على التفاوض في أوكرانيا للحد من مخاطر نشوب حرب عالمية مدمرة.
وأضاف: “نعيش الآن في عصر جديد تماما”، مشيرا إلى أن الوضع الجيوسياسي على مستوى العالم سيشهد تحوّلات كبيرة بعد انتهاء حرب أوكرانيا.