ينطلق “عيد جما” في السادس من تشرين الأول من كل عام، ويستمر حتى الثالث عشر منه، وهو أبرز المناسبات الدينية لدى الإيزيديين، إذ يتوجه الحجاج لزيارة ضريح الشيخ عدي بن مسافر، الشخصية الدينية البارزة في تاريخهم، والواقع في معبد لالش، في محافظة نينوى، ضمن المناطق المتنازع عليها.
وأعلن محافظ نينوى عبد القادر الدخيل منح أبناء المكون الإيزيدي عطلة رسمية لمدة ستة أيام، ابتداءً من الغد، احتفاءً بالمناسبة.
إلى معبد لالش، يتوافد آلاف الإيزيديين من أنحاء العراق والعالم، حاملين معهم أمنياتهم نحو عيد الجماعية أو عيد جما، أقدس أعياد ديانتهم وأوسعها طقوساً، وأشدها ارتباطاً بالذاكرة والهوية.
تبدأ أيام العيد بطقوس روحية مهيبة ترمز إلى نزول “الملك طاووس” إلى الأرض، وهو الملاك الأكبر في المعتقد الإيزيدي، حاملاً النور والرحمة. ومن هذا الرمز يستمد العيد معناه العميق “الطهر، والغفران، والاتحاد مع النور الإلهي”، على حد رأيهم.
تستقبل بوابات لالش، منذ ساعات الصباح الأولى، أفواج الزائرين الذين يخلعون نعالهم احتراماً لقدسية المكان، ويتوجهون إلى “عين البيضاء”، النبع المقدس الذي يُقام عنده طقس التعميد طلباً للطهارة والتجدد. النساء يربطن أقمشة ملونة على الصخور القديمة دلالة على النذر والدعاء، بينما تعلو وجوه الجميع ملامح الخشوع والسكينة.
في اليوم التالي، تقام طقوس الذبح والتضحية، حيث يقدم “ثور العيد” قرباناً باسم الجماعة الإيزيدية جمعاء، وتوزع لحوم الأضحية على الحاضرين في مشهد من الألفة والمشاركة. وتختتم الليالي بأنغام القوالين، منشدي الأدعية الإيزيدية، الذين يعزفون على الدفوف والنايات ألحاناً ضاربة في القدم، بينما تصطف حلقات الراقصين في رقصة “الكوفند” الدائرية التي تجسد وحدة الكون وتكامل الخلق.
في اليوم الرابع، يتوجه الحجاج إلى ضريح الشيخ عدي بن مسافر، مؤسس الطريقة الإيزيدية في القرن الثاني عشر، حيث يطوفون حول الضريح ثلاث مرات حاملين الشموع والدعوات، فيما تُشعل المشاعل فوق القباب في مشهد يرمز إلى انبعاث النور الإلهي في ظلمة العالم.
ولا يقتصر عيد جما على الشعائر الدينية، بل يمثل مناسبة اجتماعية وإنسانية تجمع العائلات من سنجار وشيخان والموصل وزاخو، وحتى من المهجر في ألمانيا والسويد. تتعالى ضحكات الأطفال بين الجموع، وتعد النساء الأطباق التراثية مثل البرغل باللحم والكليجة الإيزيدية، لتتحول لالش إلى فضاء حيّ يعيد إلى الطائفة روحها بعد سنوات من الجراح والإبادة.
ويقول رجال الدين الإيزيديون إن هذا العيد يجسد رسالة سلام ووفاء للخالق والإنسان معاً، ورسالة ثبات في وجه النسيان، خصوصاً بعد المآسي التي عاشها أبناء المكون في سنجار على يد تنظيم داعش. فـ“جما” بالنسبة إليهم هو صلاة جماعية من أجل الشفاء والرجاء، وفرصة لتجديد الإيمان بقدرة النور على الانتصار على العتمة.
ويرى باحثون أن جذور هذا العيد تعود إلى العصور السومرية والبابلية، حين كانت طقوس الخصب والنور تُقام في الموسم ذاته، ما يجعل “جما” امتداداً حياً لذاكرة حضارية تمتد آلاف السنين، تمزج بين القداسة والتراث، وبين الإيمان والهوية.
ومع نهاية الأسبوع الاحتفالي، يودع الإيزيديون معبدهم مرددين: “سلام على لالش، وسلام على من جاءها زائراً”، ليختتموا أقدس أعيادهم بتجددٍ روحي يعيدهم إلى حياتهم محمّلين بالنور والطمأنينة.
