مع نهاية شهر تموز 2025، بدا واضحاً أن الاقتصاد العراقي يواجه اختباراً قاسياً. فقد رصد مرصد “إيكو عراق” عجزاً مالياً بلغ 12.15 تريليون دينار، رغم تسجيل الإيرادات غير النفطية لأول مرة نسبة 10% من إجمالي الإيرادات العامة. لكن هذه النسبة، على أهميتها الرمزية، تبقى محدودة أمام هيمنة النفط على بنية الموازنة، التي ما تزال تعتمد بنسبة تفوق 89% على العوائد النفطية، وفق بيانات وزارة المالية.
عجز متزايد وسط نفقات متضخمة
بلغ إجمالي النفقات العامة حتى نهاية تموز 84.18 تريليون دينار، توزعت بشكل يكشف الخلل الهيكلي في الموازنة: النفقات الجارية وحدها بلغت 62.27 تريليون دينار، أي ثلاثة أرباع الإنفاق تقريباً، مقابل 13.06 تريليون للنفقات الاستثمارية، و8.53 تريليون لجولات التراخيص النفطية، فيما لم تتجاوز مخصصات الاتفاقية الصينية 321 مليار دينار. أما الإيرادات العامة فبلغت 72.03 تريليون دينار، منها 64.96 تريليون من النفط، و7.07 تريليونات فقط من مصادر غير نفطية. هذا التفاوت بين الإنفاق والإيرادات يعكس اعتماداً مزمناً على النفط، ويجعل العجز المالي واقعاً ثابتاً، لا مجرد ظرف مرحلي.
الجهاز المصرفي تحت ضغط الديون
في موازاة أزمة الموازنة، أظهرت بيانات مؤسسة “عراق المستقبل” أن موجودات الجهاز المصرفي ارتفعت إلى 275 تريليون دينار في النصف الأول من 2025، بزيادة نسبتها 5% عن العام السابق. ورغم أن هذه الزيادة ارتبطت بنمو الاحتياطيات ورؤوس الأموال بنسبة 26%، إلا أن المؤشرات تكشف تحوّلاً مقلقاً: الاحتياطيات الأجنبية انخفضت إلى 58% من الموجودات مقابل 68% في 2024، بينما قفزت الديون الحكومية إلى 13% بزيادة 116%، وارتفعت ديون القطاع الخاص إلى 20%. بذلك ارتفعت حصة الديون إلى 32% من الموجودات مقابل 24% العام الماضي، في منحى قد يتفاقم ليجعل الديون نصف الموجودات قريباً.
تقلبات النفط وتبعاتها
التحدي الأكبر أمام المالية العراقية يظل مرتبطاً بالنفط. فخلال الأسبوع الأخير، تكبّد خام البصرة خسارة تجاوزت 7%، ليغلق الخام الثقيل عند 63.21 دولاراً للبرميل، والمتوسط عند 64.76 دولاراً. هذا التراجع يعكس تقلبات السوق العالمية وسط خلافات داخل تحالف أوبك+ حول زيادات الإنتاج. تحذيرات شركة S&P Global جاءت واضحة: انخفاض أسعار النفط يهدد دولاً تعتمد على الخام، مثل العراق، بتقليص الإنفاق العام، وتأجيل مشاريع البنية التحتية.
وفي حال استمرار الفجوة بين سعر البرميل وسعر التعادل في الموازنة، قد يرتفع العجز إلى أكثر من 64 تريليون دينار، وفق تقديرات خبراء اقتصاديين، وهو ما قد يعرّض قدرة الدولة على دفع الرواتب أو تمويل الاستثمارات إلى مخاطر مباشرة.
في ظل هذا المشهد، يتكرر الحديث عن ضرورة تعظيم الإيرادات غير النفطية. لكن هذا الطموح يظل محاصراً بتحديات تمويلية وإدارية عميقة، من ضعف القاعدة الإنتاجية إلى محدودية الإصلاح الضريبي والجمركي. وبينما يقر خبراء محليون ودوليون بأن التحول بعيداً عن النفط ضرورة لا خيار، إلا أن التنفيذ يحتاج إلى رؤية طويلة الأمد، تتجاوز الحلول الترقيعية القائمة على الاستدانة.
الاقتصاد العراقي اليوم عالق بين عجز مالي متصاعد، ونفقات تشغيلية ضخمة، وهيمنة شبه مطلقة للنفط، وتحول هيكل الجهاز المصرفي نحو الديون على حساب الاحتياطيات. وإذا ما استمرت أسعار النفط بالانخفاض، فإن الضغوط على المالية العامة ستزداد، ما يهدد الاستقرار الاقتصادي والسياسي معاً. وفي غياب إصلاح جذري، قد يظل العراق في حلقة مفرغة من العجز والاستدانة، فيما يبقى الاقتصاد رهينة تقلبات السوق النفطية.
