في ذروة ما بعد الانتخابات، بدا المشهد السياسي العراقي وكأنه يعيد ترتيب نفسه على قاعدة واحدة: الفائز لا يحكم، بل يذعن للتوافق؛ ومن يحصد أصواتاً أعلى يظل في حاجة إلى المظلّة التي تصنع الشرعية داخل “البيت الشيعي”.
هذه المعادلة القديمة تجددت بصورة أوضح بعد اجتماع الإطار التنسيقي المرقّم (250)، وهو الاجتماع الذي يمكن اعتباره نقطة الشروع الفعلية في معركة تشكيل الحكومة المقبلة، مهما قيل عن “احترام إرادة الناخبين” أو “الانتقال الدستوري المنظم”.
الإطار خرج ليحسم المسألة مبكراً: هو الكتلة الأكبر، وهو صاحب حق تسمية رئيس الوزراء المقبل.
تشكيل لجنتين عليا—واحدة لمناقشة الاستحقاقات الوطنية، وأخرى لمقابلة المرشحين—ليس مجرد تنظيم إداري، بل إعلان واضح بأن “باب الرئاسة” يمر من هنا، وأن البرنامج الحكومي سيُفصَّل داخل غرف الإطار لا خارجها.
وسط هذا المشهد، كان حضور رئيس الوزراء المنتهية ولايته، محمد شياع السوداني، في اجتماع الإطار هو العلامة الأكثر دلالة. فالرجل الذي خاض الانتخابات بعنوان “الإعمار والتنمية”، وظهر في بعض مراحل ولايته متحرراً نسبياً من ثقل الإطار، وجد نفسه يعود إلى نقطة التوازن الأولى: القرب من القوى التي منحت حكومته حياتها السياسية، الحضور لم يكن شكلياً؛ كان إعادة اصطفاف، وربما اعترافاً غير معلن بأن الولاية الثانية تمر عبر الإطار، لا عبر حجم المقاعد.
ولم ينتظر السوداني طويلاً لتفسير هذا الاصطفاف. في منتدى دهوك، قدّم مرافعة سياسية متكاملة: العراق لن يكون ساحة نفوذ، الاقتصاد يتحسن، البطالة انخفضت، المصانع تعمل، والقطاع الخاص لم يعد “خيالاً هزيلاً” في ذهن الشباب. بدا وكأنه يقول للإطار والجمهور في آن واحد: التجربة قابلة للتمديد، ولديّ ما يبرر ولاية ثانية لا تُقاس بالطموح الشخصي بل بـ“استمرار المسؤولية”.
لكن النص السياسي تحت السطح أكثر وضوحاً من نصوص الخطب: الإطار يريد رئيساً من داخل منظومته، لا يصطدم ولا يناور خارج حدود البيت. والسوداني يدرك أن الانفصال عن الإطار لن يفتح له باباً آخر، لأن الإطار ذاته يمتلك وفرة من المقاعد تكفي لتشكيل الحكومة بلا الحاجة إلى “حليف متمرّد”. لذلك كانت العودة خطوة محسوبة، لا مجاملة بروتوكولية.
المسار الذي يتشكل الآن يبدو متجهاً نحو حكومة “تفاهمات”، لا حكومة صدامات، مع تركيز على تثبيت الداخل قبل الانفتاح على الخارج. بغداد وأربيل أمام جولة جديدة من إعادة ضبط العلاقة، والكتل الكردية والسنية ستنضم في الوقت المناسب، حين يكتمل شكل رئيس الوزراء المقبل وتُحدّد حصة كلّ طرف في خريطة السلطة.
المهم في هذا المشهد أن الانتخابات، رغم ضجيجها، لم تغيّر قاعدة اللعبة. الإطار يعود ممسكاً بالأوراق، والسوداني يعود لاعباً داخل الملعب الذي يعرف قواعده جيداً. وإن حصل على فرصة ثانية، فستكون استمراراً لمنطق “الإدارة الحذرة”، لا القفز نحو استقلال سياسي لا تسمح ظروف الطيف الشيعي ولا التوازنات الإقليمية بحدوثه.
في النهاية يمكن القول إن العراق يدخل مرحلة سياسية عنوانها:
الفائز يذعن للتوافق، والإطار يكتب السطر الأول، فيما يحاول السوداني أن يضمن أن يكون هو السطر الثاني… لا الهامش.
ومع نبرة الاستقرار الظاهر، تظل النقطة الحقيقية في ما إذا كانت المرحلة المقبلة ستكتفي بإدارة الهدوء أم ستغامر بصناعة تغيير فعلي في بنية الدولة وجرأة القرار.
