في الصباح الباكر، حين يزحف الضوء على صفحة الماء، كان “الهور” في السابق يستيقظ قبلي. أسمع صوته في هدير الطيور، في تنفّس القصب، في ارتجاف الزورق تحت قدمي. لكن في السنوات الأخيرة، صارت الصباحات صامتة. لا سمك، لا طيور، لا هدير”، يقول “علاوي الأهواري”.
و”علاوي” لقب محبب يطلقه أصدقائه وسياح أجانب على علي بجاي عوض، الناشط البيئي من قضاء الجبايش في محافظة ذي قار.
الهور بيتي وهويتي
“الهور مو بس بيئة، الهور بيتي وهويتي وتاريخي”، يقول علاوي لمنصة “إيشان”، وهو يجلس على حافة زورقه الذي رافقه منذ الطفولة.كان مركبًا صغيرًا، لكنه حمل تاريخًا من التحولات في بلاد ما بين النهرين، من الفردوس المائي، إلى أطلال يابسة متشققة.
منذ عام 2008، كرس علاوي حياته لخدمة مجتمعه المحلي، بدءًا من الإرشاد السياحي داخل الأهوار، إلى تأسيس أول مرسى بيئي في الجبايش، ثم منظمة “القصب الأخضر” التي أصبحت صوتًا للسكان المحليين في وجه الجفاف، والتغير المناخي، والإهمال المؤسسي.
يقول علاوي الأهوار: “كل زاوية لي فيها ذكرى من صوت الطيور إلى صوت أبي (أبو مسافر) وهو يشرح للضيوف عن الهور.. تربّيت في الماء والقصب وعلى حب المكان الذي علّمني كيف أكون وفيّا للأرض وأهلها”، ويضيف باللهجة الدارجة: “اليوم الهور عطشان، والسمج مات، والجاموس هج والناس هجّت (هاجرت). الجبايش، اللي كانت تضج بالحياة، صارت ساكتة، كأنها تأن ولا أحد يسمعها”.
التدهور البيئي هذا، ليس وليد سنة أو سنتين، بل نتيجة تراكمات لعقود من الإهمال وسوء الإدارة. وفق بيانات وزارة الموارد المائية العراقية، انخفضت مناسيب نهري دجلة والفرات بشكل مقلق في السنوات الأخيرة، بسبب قلة الإطلاقات المائية من دول الجوار، وبسبب تغيّرات مناخية حادة. وما فاقم الأزمة في الأهوار، هو غياب التخطيط المحلي، وتردي شبكات الري والصرف، وغياب مشاريع الحصاد المائي.
يشير علاوي إلى مساحة واسعة من الأرض المتشققة، ويقول: “هاي كانت ماي (ماء)، چانت تجيها الطيور من كل العالم وهسه؟ غير صالحة للحياة”. لا يكتفي بالكلام، بل يصور، ويوثّق، ويرسل الصور إلى منظمات دولية، ويشارك في المؤتمرات المناخية، ممثلاً عن صوت الهامش. شارك في مؤتمر الأطراف للمناخ (COP28) في دبي، وحمل معه ليس فقط بيانات، بل قصص الأمهات اللواتي فقدن مصدر رزقهن، والأطفال الذين يسبحون في ماء مالح.
من خلال منظمة القصب الأخضر، أطلق علاوي برامج لدعم وتمكين الشباب، وتدريبهم على التوثيق والمناصرة البيئية. كما أسهم في بناء وعي جماعي بأهمية التراث المائي، فأنشأ دار ضيافة بيئية تقدم للزوار تجربة الحياة الأهوارية، بالأكل، والمبيت، وحتى القصص.
“الإعلام ظلمنا”
“من يجون السياح الأجانب، أشوف الدهشة بعيونهم. يقولولي: معقول هاي الأهوار بالعراق؟ الإعلام ظالمنا، والعالم ما يعرف شنو نخسر لما الهور يموت. من 2010 إلى 2016 كنت أنقل الصحفيين ببلاش (مجانا) في زورقي. بس أريد صوتنا يوصل”.
وفي مفارقة عبثية كما يصفها، اكتشف لاحقًا أن جهوده البسيطة كانت جزءًا من تخطيط المسار الجغرافي الذي اعتمدته اليونسكو لتسجيل أهوار الجبايش كموقع تراث عالمي عام 2016. كان وقتها بعمر لا يتجاوز الخامسة عشرة، يبحر مع باحثين وفنانين، ويظن أنه فقط “يوصلهم”، دون أن يدرك أنه يسهم في حدث عالمي: “يوم إعلان الأهوار تراث عالمي تواصل معي أشخاص من وزارة البيئة وناشطون أجانب كنت آخذهم للتصوير في الاهوار وقالوا لي: إنت ساهمت بهذا الإنجاز”.
لكن الإنجاز لم يكن كافيًا لإنقاذ الأهوار.
“صارت الأهوار تموت قدام عيوني. يومية نسمع عن عائلة هجّت (هاجرت)، عن صياد باع شختورته واشترى سيارة أجرة، عن راعي جاموس ترك الرعي وراح يشتغل فراش بالمدينة. فقدنا كلشي، حتى طعم الحزن تغير”.
تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن محافظة ذي قار تصدّرت معدلات الهجرة البيئية في العراق، وأن قضاء الجبايش تحديدًا شهد نزوح آلاف العوائل خلال السنوات الثلاث الأخيرة. لم يعد القصب يغطّي الضفاف، ولا الطيور تبني أعشاشها في البردي، وحتى الماء، بات يُجلب بالصهاريج.
“إذا الهور راح، نروح وياه”
ورغم ذلك، لا يزال علاوي يصرُّ على البقاء. “أنا مو ضد التطور، بالعكس. بس أريد تنمية تحافظ على هويتنا. مو تجيبلنا شارع وتاخذ من عدنا الهور. الهوية ما تنشرى بالأسفلت.”
اليوم، مع تقلص الدعم الدولي، وتراجع الاهتمام الإعلامي، يجد نفسه أكثر وحدة، لكنه أكثر قناعة. “بعدني أؤمن إن الهور ما يموت. لأن أكو ناس، ولو قلّة، بعدهم يحبّوه. وأنا أشتغل حتى لو وحدي. أشتغل لأن إذا الهور راح، نروح وياه.”
“أعتقد وبنسبة مليار بالمية أن المجتمع العراقي غير مبالٍ بمصير الأهوار”، يقول علاوي بحزن، ويرى أن “السبب الرئيس هو عدم معرفتهم الحقيقية بقيمتها. والدليل أن كثير من المسؤولين الموجودين حاليًا في السلطة هم من أبناء الأهوار نفسهم، ومع ذلك أغلقوا الأبواب في وجوهنا، ولم يطالبوا بحقوق سكان الأهوار، ولم يهتموا لموت هذه البيئة الساحرة”.