رغم تسجيل العراق تراجعًا طفيفًا في مؤشر الفقر متعدد الأبعاد خلال عام 2024، فإن التفاوت الكبير بين محافظاته لا يزال حاضرًا بقوة، ليعكس واقعًا تنمويًا غير متوازن. وبينما تشير الأرقام الرسمية إلى انخفاض النسبة إلى 10.8% مقارنة بـ11.4% في عام 2018، تتصدّر محافظات جنوبية ووسطى مشهد الفقر بمعدلات تتجاوز المعدل الوطني بكثير، في وقت تسجّل فيه محافظات أخرى معدلات أقل بكثير، ما يسلّط الضوء على فجوة إنمائية ما زالت تشكّل تحديًا أمام السياسات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
وأعلنت وزارة التخطيط العراقية عن تراجع طفيف في مؤشر الفقر متعدد الأبعاد، إذ بلغت نسبته 10.8% لعام 2024، مقارنة بنسبة 11.4% في عام 2018. الإعلان جاء على لسان وزير التخطيط محمد علي تميم خلال مؤتمر رسمي أُطلق فيه تقرير وطني جديد بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومبادرة أكسفورد للفقر والتنمية البشرية، وأكد الوزير أن الوزارة تعمل على تشخيص الحاجات الأساسية للمواطنين وفقاً لمؤشرات ميدانية تغطي بغداد وسائر المحافظات، مشيراً إلى توجه جديد نحو إعداد أدلة خاصة بفقر المرأة والطفل في الأعوام المقبلة.
ورغم هذا الانخفاض البسيط، فإن أرقام الفقر في العراق لا تزال تكشف تفاوتاً حاداً بين المحافظات، وسط تحذيرات من استمرار عوامل الفقر البنيوي التي تعيق جهود التنمية.
فبينما تظهر محافظات مثل السليمانية وأربيل معدلات فقر لا تتجاوز 8%، ترتفع النسبة بشكل لافت في محافظات الجنوب والوسط. محافظة المثنى ما زالت تتصدر المشهد بأعلى نسبة فقر في البلاد، رغم انخفاضها من أكثر من 50% إلى نحو 40% خلال السنوات الأخيرة، في حين تسجّل بابل وصلاح الدين نسباً تقارب أو تتجاوز 35%، ما يضعها في دائرة الخطر الاقتصادي والاجتماعي، بحسب بيانات التنمية المحدثة.
ويعكس التفاوت في نسب الفقر بين المحافظات وجود فجوة عميقة في فرص التنمية والخدمات العامة. إذ تعاني المحافظات الفقيرة من تدهور واضح في البنى التحتية، وندرة فرص العمل خارج القطاع العام، وتراجع في جودة التعليم والرعاية الصحية، إلى جانب مشكلات مزمنة في توفير المياه والكهرباء والخدمات الاجتماعية.
كما أدّت الأزمات المتكررة، من نزاعات مسلحة إلى تقلبات اقتصادية وسعرية، إلى تقويض الأمن المعيشي لشرائح واسعة من السكان، خصوصاً في المناطق التي كانت ساحة للعمليات العسكرية أو تستضيف أعداداً كبيرة من النازحين.
ويقول مراقبون إن الفقر في العراق لم يعد مجرد مسألة تتعلق بانخفاض الدخل، بل بات يرتبط بجملة من العوامل المركبة، منها الحرمان من التعليم الجيد، والبطالة، وضعف شبكات الأمان الاجتماعي. ويعتبر “دليل الفقر متعدد الأبعاد” أداة حديثة في قياس الظاهرة، لأنه لا يكتفي بمستوى الدخل، بل يرصد مؤشرات مثل المسكن، والصحة، والحصول على الخدمات، ما يجعل نتائجه أكثر دقة في فهم طبيعة الفقر وأبعاده المختلفة في البلاد.
وبحسب ما ورد في تقرير التخطيط، فإن الوزارة تعتزم إطلاق دليل خاص بفقر المرأة في مبادرة تُعد الأولى من نوعها على مستوى المنطقة العربية، كما تعمل على إعداد نسخة جديدة من دليل فقر الطفل في عام 2026 بعد إتمام المسح العنقودي متعدد المؤشرات، في خطوة تهدف إلى رصد أكثر عمقاً للاحتياجات السكانية.
لكن رغم هذه الجهود، يواجه العراق تحديات جديّة في تقليص الفجوة التنموية بين المحافظات، في ظل غياب مشاريع إنتاجية مستدامة، واعتماد مفرط على الإيرادات النفطية، وعدم الاستقرار السياسي الذي يعيق التخطيط طويل الأمد. ويؤكد متابعون أن مسارات خفض الفقر تتطلب أكثر من مجرد مؤشرات؛ إذ لا بد من بناء نموذج اقتصادي قادر على إنتاج فرص عمل حقيقية، وتحسين جودة التعليم والخدمات، وتوجيه الإنفاق العام نحو أولويات محلية تستجيب لواقع كل محافظة على حدة.
ويأتي هذا التحديث في وقت تشهد فيه البلاد نقاشاً واسعاً حول جدوى السياسات الاقتصادية الحكومية، ومدى فعاليتها في تحسين حياة المواطنين، لا سيما مع تزايد الضغوط الاجتماعية وارتفاع نسب البطالة بين الشباب. وبينما يبدو الانخفاض الطفيف في مؤشر الفقر خطوة إيجابية على الورق، إلا أن الواقع الميداني يشير إلى أن الطريق ما زال طويلاً نحو تحقيق تنمية عادلة وشاملة تُنهي مظاهر الحرمان والفجوة بين المركز والأطراف.