قراءة استخبارية في سلوك طهران: بين المرونة المحسوبة وذاكرة العقوبات القديمة.
د. عامر عبد رسن الموسوي
أعلنت باريس، على لسان وزير خارجيتها، أن إيران أفرجت عن مواطن يحمل الجنسيتين الفرنسية والألمانية بعد أيام من إلغاء حكم التجسس الصادر بحقه. خبر صغير في شكله، لكنه كبير في دلالاته الاستخبارية والسياسية، إذ يفتح الباب أمام قراءة جديدة لطبيعة التحولات الجارية في سلوك الدولة الإيرانية تجاه الغرب، خصوصًا بعد إعادة تفعيل آلية “الزناد” (Snapback) التي أعادت العقوبات الأممية والأوروبية إلى مسار التنفيذ.
أولًا: دلالات الحدث – رسالة استخباراتية ناعمة : منذ أكثر من عام، خاضت باريس حوارًا شائكًا مع طهران حول ملف المعتقلين من مزدوجي الجنسية، استخدمت فيه أدواتها الدبلوماسية العادية تارة، وأذرعها الاستخبارية تارة أخرى عبر المديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسي (DGSE)، التي نفّذت سلسلة زيارات واتصالات غير معلنة مع مسؤولين في وزارة الاستخبارات والأمن الإيرانية .
وقد مثّل الإفراج الأخير انعطافة محسوبة في نهج طهران، التي اشتهرت بإدارة الأزمات من موقع “الندية الصلبة”، لكنها هذه المرة اختارت لغة التهدئة الاختبارية، مستثمرة الحدث لتبعث برسالة مزدوجة:
1. للداخل الإيراني مفادها أنّ طهران ما زالت تمسك بأوراقها كاملة، وأنّ أي تساهل محسوب لا يعني ضعفًا.
2. وللغرب مفادها أنّ القنوات الدبلوماسية لم تُغلق بعد، وأنّ إيران قادرة على تصعيد أو خفض التوتر حسب درجة الضغط الدولي.
هذا النمط من السلوك يُعرف في أدبيات الاستخبارات بـ “المرونة الموجّهة”، أي منح تنازل إنساني محدود يُستخدم كجسر تفاوضي لتليين جبهة العقوبات دون المساس بالملفات الجوهرية كالتخصيب النووي أو النفوذ الإقليمي.
ثانيًا: العقوبات والزناد – هندسة الضغط المتبادل : تأتي الخطوة الإيرانية بعد أسابيع فقط من إعلان الدول الأوروبية الثلاث (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا) تفعيل آلية الزناد ضمن الاتفاق النووي لعام 2015، وهي الآلية التي تتيح إعادة فرض العقوبات الأممية تلقائيًا على إيران بعد اتهامها بانتهاك الالتزامات النووية.
هذا التفعيل أحدث ارتجاجًا واضحًا في المؤسسات الإيرانية، حيث تصاعد الجدل بين التيار المحافظ العقائدي والتيار البراغماتي الأمني حول جدوى المواجهة المباشرة في ظل الضغوط الاقتصادية المتراكمة، وخصوصًا بعد تراجع عائدات النفط وازدياد الحاجة إلى تدفقات نقدية من السوق الرمادية في آسيا وأفريقيا.
إطلاق سراح المعتقل جاء، إذن، في سياق اختبار توازن جديد: ضغوط اقتصادية مقابل تنازلات رمزية.
فالقيادة الإيرانية تعي أن العقوبات المعاد تفعيلها ليست مجرد أرقام في قوائم الأمم المتحدة، بل منظومة متكاملة من العزلة المالية، وتعطيل الممرات اللوجستية، ومراقبة شركات الواجهة المرتبطة بالحرس الثوري. ومن هنا، فإنّ “اللين” الذي أبدته طهران مؤخرًا لا يعكس تبدلاً عقائدياً، بل استراتيجية تنفيس منظّم تهدف إلى إعادة ضبط إيقاع التوتر ضمن حدود يمكن التحكم بها.
ثالثًا: مفاوضات الظل – استخبارات تتكلم بلغة الدبلوماسية ؛ من الناحية الاستخبارية، تنظر فرنسا إلى إيران كدولة تفاوض تُخفي داخل كل ملف إنساني أو أمني طبقات متراكبة من الرسائل. ولعلّ أكثر ما يلفت في هذا الحدث أن الاتصالات التي أدت إلى الإفراج لم تمر عبر القنوات الرسمية لوزارة الخارجية الفرنسية فقط، بل عبر شبكة محاورين أمنيين ضمت شخصيات من DGSE ووسطاء أوروبيين لديهم علاقات مع مؤسسات إيرانية شبه رسمية.
العملية بحد ذاتها تعكس ما يُعرف في علم الاستخبارات بـ “الدبلوماسية الموازية” (Backchannel Diplomacy)، حيث تُستخدم ملفات إنسانية لإعادة اختبار إمكانية الحوار في ظل قطيعة سياسية رسمية. وغالبًا ما تُبنى عليها جسور تفاوضية لاحقة تتناول قضايا أكبر، مثل البرنامج النووي، أو العقوبات النفطية، أو أمن الممرات البحرية في الخليج.
رابعًا: “الاحتجاز كورقة ضغط” – مدرسة إيرانية في المساومة ؛ منذ الثورة الإسلامية عام 1979، طوّرت طهران ما يُعرف بـ عقيدة الاحتجاز المتبادل، أي استخدام مواطنين أجانب كمادة تفاوض في معادلة الضغط المتبادل. وقد نجحت هذه الاستراتيجية في أكثر من محطة، من أزمة السفارة الأميركية عام 1980، مرورًا بملفات البريطانيين والأستراليين والفرنسيين خلال العقدين الماضيين، وصولًا إلى تبادل الأسرى مع واشنطن في 2023.
الفرق اليوم أنّ إيران لم تعد تستخدم هذه الورقة كابتزاز مباشر، بل كأداة اختبار للمزاج الغربي. فهي تعلم أنّ الإفراج المحسوب عن معتقل واحد في توقيت حساس قد يخلق “نافذة نفسية” في العواصم الأوروبية تُمهّد لمسارات تفاوضية جديدة أو تخفيف نسبي للعقوبات.
وفي الوقت ذاته، تُدرك أن الإفراط في التصعيد أو تنفيذ أحكام قاسية قد يؤدي إلى عكس النتائج، كما حدث في تجربة أخرى قبل أكثر من ثلاثة عقود في العراق.
خامسًا: ذاكرة التاريخ – درس من بازوفت ؛ يستحضر الحدث الحالي ذاكرة 15 مارس آذار 1990 عندما أقدم نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين على إعدام الصحفي البريطاني–الإيراني الأصل “فرزاد بازوفت” بتهمة التجسس، رغم طلب رئيسة الوزراء البريطانية حينها مارغريت تاتشر بالإفراج عنه. وقد أدت تلك الحادثة إلى تحوّل نوعي في العلاقات بين بغداد ولندن، وأطلقت سلسلة من الأفخاخ الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية التي ساهمت لاحقًا في عزل العراق وإضعاف قدرته على المناورة قبيل حرب الخليج الأولى.
اللافت أن المفاوض الإيراني اليوم يبدو أكثر ذكاءً ووعيًا بالذاكرة العقابية الغربية. فهو لم يقع في الفخ ذاته الذي وقع فيه صدام حين حوّل قضية فردية إلى مواجهة سيادية خاسرة. فبدلًا من “الإعدام الصاخب” الذي يُكسب عناوين داخلية لكنه يجرّ خسائر استراتيجية، اختارت طهران الإفراج الصامت الموجّه الذي يمنحها رصيدًا تكتيكيًا في مفاوضات الغد، ويجنبها الانزلاق إلى “صدام قانوني–إعلامي” مع الغرب.
بهذا السلوك، أظهرت إيران ذكاءً تفاوضيًا متعدد الطبقات: فهي تحافظ على هيبتها القضائية داخليًا، وتبعث برسالة ضبط نفس خارجياً، وتختبر حدود الضغط الغربي في الوقت ذاته.
سادسًا: بين العقوبات والملفات الساخنة : إنّ قراءة هذا التطور في ضوء تفعيل العقوبات لا يمكن فصلها عن المناخ الإقليمي المتوتر:
فالممرات البحرية في البحر الأحمر والخليج تشهد تصعيدًا متدرجًا.
والمفاوضات النووية تراوح مكانها بين مسقط والدوحة.
وواشنطن، المنشغلة بإعادة تموضعها في الشرق الأوسط، تراقب عن كثب أي إشارة “لين” من طهران لتوظيفها في إعادة ترتيب الأوراق مع أوروبا.
من هنا، يبدو أن الإفراج الأخير ليس استجابة إنسانية فحسب، بل جزء من عملية معايرة دقيقة لمستوى الانفتاح المطلوب لتخفيف أثر العقوبات دون الظهور بمظهر المنكسر. وهو ما يسميه بعض المحللين في طهران بـ “الذكاء الدفاعي”: أي استخدام مبادرات محدودة لإرباك استراتيجية الخصم وإعادة ضبط التوازن النفسي في المواجهة.
سابعًا: الخلاصة – رسائل من وراء الجدران ؛ الحدث في جوهره عملية استخبارية متقنة التخطيط أكثر من كونه قرارًا قضائيًا أو إنسانيًا. إيران تدرك أن الملفات الفردية هي مفاتيح اختبار الإرادة الدولية، وأنّ العالم الغربي لا يُحرّكه القانون وحده، بل الرأي العام. لذلك جاء الإفراج عن المواطن الفرنسي–الألماني كضربة ذكية على رقعة شطرنج مزدحمة:
تحسين للصورة الدولية في لحظة تعاظم العزلة.
اختبار لاستجابة باريس وبرلين في ملف العقوبات.
تمهيد لمرحلة تفاوضية أكثر مرونة ضمن هندسة جديدة للردع والدبلوماسية.
وفي الخلفية، تُطلّ الحكمة القديمة: من يفهم ذاكرة العقوبات لا يكرر خطاياها.
لقد اختار المفاوض الإيراني أن يقرأ التاريخ لا أن يعيد تمثيله، فجنّب بلاده فخ بازوفت جديد، وأرسل للعالم إشارة مفادها أن طهران حين تريد التصعيد تعرف متى تتراجع، وحين تتراجع تفعل ذلك بذكاءٍ سياديّ لا بانكسارٍ سياسي.
