في مثل هذا اليوم من حزيران، قبل أحد عشر عاماً، وقعت واحدة من أبشع المجازر التي عرفها العراق الحديث، مجزرةٌ اختلطت فيها رائحة الدم بتراب تكريت، وتلوّن فيها نهر دجلة بلون الشهداء، لتبقى سبايكر جرحاً مفتوحاً في الذاكرة العراقية.
بداية المجزرة
في 12 حزيران من عام 2014، وبينما كانت مدينة الموصل قد سقطت بيد تنظيم “داعش”، كانت المئات من العوائل العراقية تترقب مصيراً مظلماً لأبنائها الطلبة في قاعدة سبايكر الجوية بمحافظة صلاح الدين. ولم يطل الوقت حتى بدأت تتسرب الأنباء، عن قيام التنظيم الإرهابي بخطف المئات من أولئك الطلبة، ليتم بعد ذلك إعدامهم جماعياً في مجزرة هزّت العالم بأسره.
عدد الشهداء ليس ١٧٠٠
لم يكن عدد الشهداء 1700 كما شاعت الروايات الأولى، بل يؤكد النائب معين الكاظمي، رئيس لجنة تخليد شهداء سبايكر، أن الأعداد الحقيقية تفوق الألفين، مشيراً إلى أن عدد الشهداء الذين تم تسليم رفاتهم لذويهم بلغ حتى الآن 1200 شهيد، فيما لا تزال نحو 200 رفات في دائرة الطب العدلي ببغداد، تنتظر استكمال تحليل الحمض النووي (DNA) لربطها بذويها، أما ما تبقى من الضحايا – نحو 600 شهيد – فما زالوا في عداد المفقودين، لم يعثر على رفاتهم حتى الآن.
ويؤكد الكاظمي في تصريح سابق، أن التقرير الدولي الشامل الصادر عن منظمات حقوقية معنية، أقرّ بأن ما جرى في سبايكر هو جريمة إبادة جماعية ارتكبت بحق فئة محددة من العراقيين، وهم أبناء المكون الشيعي، وذلك من منطلق طائفي بحت، مشيراً إلى أن الجريمة لم تكن فقط فعلًا إرهابياً، بل جزءاً من مخطط سياسي أكبر، اشتركت فيه أطراف داخلية وخارجية، تركت أدوات داعش تنفذ دون رادع.
الصور تجرح القلب
في مشهد لا يزال محفوراً في الذاكرة، ظهرت الصور والفيديوهات التي وثّقت عملية الإعدام الجماعي، حيث اقتيد الطلبة مقيدي الأيدي ومعصوبي الأعين، إلى مجاميع رملية على ضفاف نهر دجلة، ثم أُعدموا واحداً تلو الآخر، بدم بارد، وألقيت جثثهم في النهر أو في مقابر جماعية حفرت لهم بسرعة.
أمهات ينتظرن
منذ ذلك الحين، والأمهات تنتظر. سنوات مرت، لم تجف فيها الدموع، ولم تذبل صور الأبناء التي ما زالت معلقة في صدر البيوت. كل عام، تتجمع العوائل الثكلى عند موقع المجزرة، تصرخ، تبكي، تُطالِب. ورغم صدور أحكام بالإعدام على عدد من المدانين بالجريمة، إلا أن معظم هذه الأحكام لم تُنفذ حتى الآن، ما يطرح تساؤلات جدّية عن إرادة الدولة في طي هذا الملف وتحقيق العدالة.
في ممرات الطب العدلي ببغداد، لا تزال صور وأسماء الشهداء معلقة على الجدران، فيما يتوافد الأهالي بين فترة وأخرى، حاملين عينات من دمائهم، أملاً بأن يُعثَر على أثرٍ يقودهم لفلذات أكبادهم. أما الأمهات، فقد جفّت دموعهن وبُحّت أصواتهن، لكنهن لم يتعبن من المطالبة بحقوق أبنائهن.
تمرّ الذكرى الحادية عشرة لمجزرة سبايكر، فيما لا تزال العشرات من العوائل العراقية تعيش صدمة اللحظة الأولى، وكأن الزمن توقف عند في مثل هذه الأيام من حزيران، قبل أحد عشر عاماً.
قصصٌ تدمي القلب
أم علي، واحدة من الأمهات اللواتي تحولت كلمتها إلى رمز، حين تلقت اتصالاً هاتفياً من أحد عناصر داعش يسألها:
“ابنج اسمه علي؟ إحنا راح نذبحه”.
فردت عليه بقلب الأم العراقية الثكلى التي لا تهتز:
“إي، علي.. سميته على اسم الإمام علي، وانطيه فدوة لعلي”.
إبادة جماعية بصكّ دولي
رئيس لجنة تخليد شهداء سبايكر في البرلمان، النائب معين الكاظمي، أكد في آخر تصريح له أن التقرير الصادر عن منظمات حقوق الإنسان الدولية عام 2016 وصف المجزرة بأنها “جريمة إبادة جماعية”، استهدفت مكوناً طائفياً بعينه، في محاولة لتفكيك البنية الاجتماعية للعراق، وشق صفوف القوات الأمنية.
عدالة متعثرة.. ومحاكمات لم تكتمل
ورغم صدور أحكام قضائية بحق العشرات من المدانين، إلا أن تنفيذ تلك الأحكام بقي محدوداً. المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق أكدت أن هناك عشرات الملفات لا تزال معلّقة، وبعض المدانين ما زالوا في السجون دون تنفيذ الأحكام الصادرة بحقهم، تحت ذرائع إدارية أو سياسية.