بينما كان الكيان الصهيوني في خضم مساعيه لوأد انتفاضة الأقصى، في عام 2003، وفي وقت كانت تحاصر فيه الرئيس الفلسطيني حينها ياسر عرفات داخل مقر الرئاسة بالمقاطعة في رام الله، كتب أبراهام بورغ، الذي شغل منصب رئيس الكنيست لأربع سنوات، قائلا إن “هناك احتمالا حقيقيا بأن يكون جيلنا هو الجيل الصهيوني الأخير”.
كان بورغ يرى أن “المشروع الصهيوني الاستعماري” الذي بدأ في القرن التاسع عشر، قد شارف على نهايته، ولم يعد له مكان في القرن الحادي والعشرين. للمفارقة، سوف يتكرر هذا التحذير مرارا على ألسنة الكتاب والمفكرين وحتى القادة السياسيين في إسرائيل خلال العقدين التاليين. مثلا، رصد الكاتب الإسرائيلي آرييه شافيت عام 2021 في كتابه بعنوان “بيت ثالث: من شعب إلى قبائل إلى شعب”، إخفاقات إسرائيل خلال أكثر من 70 عامًا من إنشائها، وتحدث عن أهمية مواجهة الصراعات الداخلية في إسرائيل باعتبار ذلك الفرصة الأخيرة للشعب اليهودي.
في السياق ذاته، أكد رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت في مناشدة من 27 صفحة عام 2022 أن الدولة الإسرائيلية “تقف أمام اختبار حقيقي ومفترق طرق تاريخي: إما استمرار العمل، وإما العودة للفوضى، لأنها تشهد اليوم حالة غير مسبوقة تقترب من الانهيار”، مشيرا إلى أن إسرائيل تفككت مرتين في السابق بسبب الصراعات الداخلية، وهي تقترب من أشد لحظات الانحطاط في حقبتها الثالثة.
تكرر التحذير ذاته على لسان رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك، مستشهدًا في ذلك بـ”التاريخ اليهودي الذي يفيد بأنه لم تُعمَّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين استثنائيتين، فترة الملك داود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين كانتا بداية تفككهما في العقد الثامن”. وقد لاقت هذه النبوءات رواجا كبيرا في العام الأخير في أعقاب عملية طوفان الأقصى، التي ضربت نظرية الأمن الإسرائيلي في مقتل ودفعت لإعادة النظر في عوامل التفكك والانهيار الراسخة في بنية الدولة الصهيونية. هنا نقدم 7 من هذه العوامل التي رصدها الباحثون والمفكرون المهتمون بمشروع الحركة الصهيونية.
حرب إسرائيل الأهلية
شهدت الأشهر التي سبقت الحرب على قطاع غزة خروج مئات الآلاف من المستوطنين الإسرائيليين إلى الشوارع في مظاهرات حاشدة ضد حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وذلك في خضم ما عُرف حينها باسم “أزمة التعديلات القضائية”. في ذلك الوقت، سعت حكومة نتنياهو لإجراء عدة تعديلات دستورية من شأنها أن تحدّ من صلاحيات السلطة القضائية لصالح السلطة التنفيذية.
وكي نفهم فداحة هذه التغييرات، علينا أن ندرك أولا السياق الذي نبعت منه، سواء بالنظر إلى الحكومة الحالية أو بتاريخ إسرائيل منذ النكبة. فحكومة نتنياهو اليمينية تُعد من أكثر الحكومات تطرفا في تاريخ إسرائيل، إذ جاءت في وقت تعاني فيه “أحزاب الصهيونية” في الداخل الإسرائيلي من الانقسام أكثر من أي وقت مضى، حيث يحتدم الصراع بين الصهيونية العلمانية والصهيونية الدينية، وهو ما رأى فيه المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه عنصرا مهمًّا سيكتب سطور نهاية المشروع الصهيوني.
ويشير إلى أن حالة توحّد المجتمع الإسرائيلي الظاهرية التي نشهدها حاليا ستبدأ في التفكك والزوال بانتهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ثم ما يلبث الصراع الديني العلماني في إسرائيل أن يشتعل مرة أخرى، خاصة في ظل صعود أحزاب أقصى اليمين.
في عام 2015، نشر كلٌّ من بابيه، والمفكر والكاتب الأكاديمي الأميركي نعوم تشومسكي، كتابا مشتركا بعنوان “عن فلسطين”، عقدا فيه مقاربة تحليلية بين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ونظام الفصل العنصري في فلسطين، وناقشا القضيتين باعتبارهما نموذجا في مقاومة الإمبريالية.
وفي الفصل الرابع من الكتاب عن “مستقبل دولة إسرائيل”، أشار تشومسكي إلى أن السنوات العشر الأخيرة في الداخل الإسرائيلي شهدت تغيرا سياسيا كبيرا، مالت فيه العقلية الإسرائيلية ناحية اليمين القومي المتطرف، وهو الوضع الذي وصفه المفكر الأميركي بأنه مشابه للأيام الأخيرة التي شهدها نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2022، أي بعد نشر هذا الكتاب بنحو 7 سنوات، جاءت نتائج الانتخابات الإسرائيلية لتؤكد هذه الرؤية، بعدما حقق “تحالف أقصى اليمين” بقيادة بنيامين نتنياهو انتصارا ساحقا، ونال 64 مقعدا من مقاعد الكنيست البالغ عددها 120، وهو ما أعاد نتنياهو إلى السلطة مرة أخرى بعد 18 شهرا من مغادرته إياها.
وقد علق الكاتب والصحفي الإسرائيلي ناحوم برنياع على نتائج هذه الانتخابات في مقال نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت”، بالقول إنها تمثل بداية النهاية لعصر الصهيونية العلمانية، في حين كتب المدير السابق لمركز غافي للدراسات الإستراتيجية في تل أبيب، يوسي ألفر، مقالا نشرته حركة “السلام الآن” الإسرائيلية التي تناصر حل الدولتين، استشهد فيه بالرؤية القاتمة لمستقبل إسرائيل التي تنبأ بها العالم والفيلسوف الإسرائيلي يشعياهو ليبوفيتز في أعقاب حرب 1967، عندما قال إن نشوة الفخر المتطرفة التي أعقبت حرب الأيام الستة ستعمل على نقل دولة إسرائيل من نموذج القومية الفخورة الصاعدة، إلى نوع من القومية الدينية المتطرفة، التي ستؤدي بدورها إلى مزيد من العنف، يقود في المرحلة الأخيرة إلى نهاية المشروع الصهيوني.
إسرائيل فشلت في أن تصبح دولة مستقرة وآمنة
قامت الدولة الصهيونية على عقيدة أساسية، وهي أن اليهود لا يمكن أن يشعروا بالأمان إلا بوجودهم داخل دولة واحدة يسيطرون على حكومتها وقوانينها، فكان الأمان الهدفَ الأساسي الذي بنى عليه ثيودور هرتزل الفكرة الصهيونية في كتابه “دولة اليهود” عام 1896، وأعلِن على إثره نشوء إسرائيل عام 1948.
ورغم ذلك، لم تستطع إسرائيل الحفاظ على سلامة اليهود داخل أراضيها، وذلك لعدة أسباب؛ أهمها أنها ما زالت تتبع منطق العنف والاستيطان ذاته الذي اتبعته منذ أكثر من 75 عاما، فاستمرار نظام الفصل العنصري ضد الفلسطينيين، واحتلال أراضيهم وهدم منازلهم وتجريدهم من إنسانيتهم، بالإضافة إلى حروب جيش الاحتلال على مصر والأردن وسوريا ولبنان، وأخيرًا الفشلُ الذريع في عملية طوفان الأقصى، كل هذا نتج عنه فشل إسرائيل في أن تصبح مستقرة وآمنة، وهذا من أهم مؤشرات بداية انهيار المشروع الصهيوني كما يرى المراقبون.
أضف إلى ذلك فشل إسرائيل في أن تصبح دولة لكل اليهود من كل أنحاء العالم كما أراد لها المشروع الصهيوني منذ بدايته، فرغم أن المشهد المُسيطر طوال القرنين 19 و20 تَمثَّل في موجات هجرة اليهود إلى فلسطين، نجد أن القرن 21 يشهد موجة هجرة عكسية من الأراضي المحتلة إلى الولايات المتحدة وأوروبا.
وقد تجاوز عدد المستوطنين الذين رحلوا عن إسرائيل 750 ألفا حتى نهاية عام 2020، وهو عدد وصل إلى 900 ألف بنهاية عام 2022.
ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تصاعدت موجات الهجرة خارج إسرائيل بشكل ملحوظ، حيث هاجر قرابة 470 ألف إسرائيلي منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى، وفقا لتقارير هيئة السكان والهجرة الإسرائيلية.
وفي السنوات الأخيرة، أشارت العديد من المصادر إلى أن يهود الغرب الذين يسكنون حاليا الولايات المتحدة وأوروبا أكثرُ سعادة من اليهود الذين يقطنون الأراضي المحتلة في فلسطين، وهو أمر انعكس على الجيل الجديد من اليهود، فلم يعد المشروع الصهيوني بالنسبة إليهم معقل الأمان، وهم في ذلك على النقيض من الأجيال السابقة.
الدعم العالمي “غير المسبوق” للقضية الفلسطينية
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، شهدت القضية الفلسطينية دعما شعبيا “غير مسبوق”، خاصة في الغرب، فرأينا المظاهرات الحاشدة تجوب شوارع المدن الأوروبية وترفع أعلام فلسطين في الميادين، في حين ندد المتظاهرون بنظام الفصل العنصري الذي تفرصه إسرائيل على الفلسطينيين.
وقد أشارت صحيفة “فايننشال تايمز” في مقال نشرته في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، إلى أن القضية الفلسطينية كانت قد تراجعت خلال السنوات الأخيرة، وغالبا ما قوبلت في الغرب باللامبالاة مع دعم أميركي كامل لإسرائيل، لكن سيطرة مشاهد القصف المروعة لقطاع غزة على منصات الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي، أدت إلى تحولات عميقة في الرأي العام العالمي تجاه القضية الفلسطينية، ازداد على إثرها دعم الديمقراطيين في الولايات المتحدة لفلسطين.
هذا وقد أظهرت استطلاعات الرأي التي أجرتها “مؤسسة غالوب” الشهيرة عام 2023 تصاعدا كبيرا في دعم الأجيال الصغيرة من الشباب الأميركي للفلسطينيين، وذلك على النقيض من الأجيال الأكبر سنًّا.
ووفقا لبابيه، فإن التحول في الرأي العام العالمي جعل أغلب المتضامنين مع القضية الفلسطينية حاليا على استعداد لتبني سيناريو إنهاء “دولة الفصل العنصري”، تماما كما حدث مع جنوب أفريقيا، وهو ما عدّه أحد إرهاصات النهاية للمشروع الصهيوني.
العالم أكثر انفتاحا لإنهاء “الفصل العنصري” في فلسطين
في مايو/أيار الماضي، قررت 3 دول أوروبية -هي إسبانيا وإيرلندا والنرويج- الاعتراف بدولة فلسطين، في أعقاب الحرب التي شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وهو ما جدد دعوات الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وقد انضمت إليها في يونيو/حزيران الماضي دولة سلوفينيا، و4 دول أخرى تقع في منطقة الكاريبي، ليرتفع عدد الدول التي اعترفت بفلسطين إلى 146 من أصل 193 دولة في الأمم المتحدة.
وهذا ما يؤكده رئيس الكنيست الإسرائيلي السابق أبراهام بورغ، عندما أشار في مقاله إلى أن قمع حركة النضال الفلسطيني لن يقضي عليها، مناديا بالقضاء على نظام الفصل العنصري، لأن سفك دماء الفلسطينيين لن ينتج عنه إلا المزيد من المقاومة، وستدفع إسرائيل جراء ذلك ثمنا باهظا، على حد وصفه.
في كتابهما “عن فلسطين”، عرض إيلان بابيه ونعوم تشومسكي بعض الحلول والمعالجات التي يمكن للجماعات المناهضة للحركة الصهيونية استغلالها لتحقيق أثر بالغ في معركتها ضد نمط الدولة الاستيطانية لإسرائيل.
في هذا السياق، يدعو الكاتبان حركات النضال الفلسطيني إلى اتخاذ حركات التحرر ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا نموذجا لها، ويحثان على دور “حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات” (بي.دي.أس) في قيادة هذا الحراك، من خلال التركيز على الفظائع التي يرتكبها جيش الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة.
كما يشير تشومسكي إلى الخطوات الصارمة والجريئة التي اتخذتها حركات التحرر في جنوب أفريقيا وأسهمت في عزل دولة الفصل العنصري دوليا وثقافيا. فعلى سبيل المثال، دعت هذه الحركات إلى وقف السماح بمشاركة جنوب أفريقيا في الفعاليات الرياضية باعتبارها دولة عنصرية، وهو ما جعل نظام الفصل العنصري في نهايته منبوذا، ولم يتلقَّ أي دعم دولي إلا من دولتين فقط، هما الولايات المتحدة وبريطانيا.
ولهذا يدعو تشومسكي “حركة المقاطعة” إلى توجيه حملاتها نحو الولايات المتحدة لتجريد إسرائيل من الدعم الدولي الأساسي الذي تتلقاه.
وهذا بالضبط ما تناوله الكاتب اليهودي الأميركي ريتشارد روبنستين، في مقاله “نهاية الوهم الصهيوني”، عندما تحدث عن الأحزاب الصهيونية بشقيها؛ العلمانية والدينية، قائلا إنهما مجرد وجهين لعملة واحدة، يجمعهما هدف مشترك، وهو الحفاظ على تفوق النخبة المهيمنة وسيطرتها، وعندما لا يؤدي أحد النهجين إلى تحقيق النتائج المرجوة، يجري تطبيق النهج الآخر.
ويضيف روبنستين أن الصراعات التي اندلعت على مدار العقدين الماضيين، وبلغت ذروتها بالحرب الوحشية الأخيرة على قطاع غزة، ساهمت بشكل كبير في نزع الشرعية عن إسرائيل، وكشفت حرب الإبادة الجماعية التي تخوضها إسرائيل للتطهير العرقي في فلسطين، وهو ما يترتب عليه مستقبلا تغيرات جذرية في بنية إسرائيل الحالية.
لكن في مرحلةٍ ما قادمة، سيكون على الجميع الصمود والوقوف في وجه الإمبريالية الأميركية من أجل اقتناص حق تقرير المصير، حيث تَعُد الولاياتُ المتحدة إسرائيلَ استثمارا إستراتيجيا لها في منطقة الشرق الأوسط، وهو أمر أشار إليه الدكتور المسيري في كتابه “من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية”، مؤكدا أن دعم الولايات المتحدة لإسرائيل يستند إلى حسابات دقيقة تهدف إلى حماية المصالح الأميركية في المنطقة، بدايةً من أسعار النفط إلى صفقات السلاح والاستثمارات. ولهذا فإن تجريد إسرائيل من الدعم الأميركي يُعد الخطوة الأهم في سبيل تحقيق التحرر الفلسطيني.
ارتفاع معدلات الفقر في إسرائيل
في يناير/كانون الثاني 2023، نشرت صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية النتائج الأولية لمسحٍ أجراه معهد اﻟﺘﺄﻣﻴﻦ اﻟﻮﻃﻨﻲ اﻹﺳﺮاﺋﻴﻠﻲ، وجاء فيها أن 20% من الإسرائيليين يعيشون تحت خط الفقر. ووفقا لتقارير عام 2021، أفاد نحو 30% من النساء والرجال أنهم يشعرون بالفقر، أي ثلث مواطني الداخل الإسرائيلي.
وكان هذا عاملا من عوامل سقوط “المشروع الصهيوني” التي أوردها بابيه في حديثه، إذ أشار إلى أن قدرة إسرائيل على الصمود اقتصاديا لن تبقى طويلا، مُتنبئا بزيادة معدلات الفقر في السنوات التالية، وهو أمر سيُعجّل بانهيارإسرائيل من الداخل، بحسبه.
قبل سنوات، تحدث عبد الوهاب المسيري أيضًا عن النتائج المترتبة على فقر المجتمع الإسرائيلي، وكيف سيصبح عاملا مساعدا على الهجرة العكسية من الأراضي المحتلة إلى دول الغرب بحثا عن رغد العيش.
أضف إلى ذلك تقلص أعداد الوافدين الجدد من المهاجرين، حيث قال إن الجيوب الاستيطانية من أجل بقائها تحتاج دائما إلى الهجرة، وإسرائيل دولة استيطانية عنصرية قائمة على العنف، وهي بحاجة إلى العنصر البشري لتظل “آلة القتال” دائرة، وهذا ما سيجعل إسرائيل تواجه في المستقبل أزمة كبيرة، وفقا للمسيري.
الفرار من الخدمة العسكرية
يعرض المسيري في كتابه “انهيار إسرائيل من الداخل” عدة مؤشرات مهمة اعتبرها المفكر الراحل إيذانا ببداية نهاية المشروع الصهيوني، حيث إن الجيوب الاستيطانية التي عمل الغرب على غرسها وسط مجتمعات أفريقيا وآسيا؛ هي بالأساس أشبه بقاعدة عسكرية للدفاع عن مصالح الدول العظمى الاستعمارية، وهو ما يفرض عليها الاستناد بشكل كامل إلى قوتها العسكرية، إذ صُمّمت لتكون “آلات قتال” كما ذكرنا سابقا.
ومن أجل ذلك عملت الدولة الصهيونية النائشة منذ تأسيسها عام 1948 على غرس فكرة “التجنيد الإجباري” بين المستوطنين الشباب، وقد استغلت في ذلك الحس القومي والديني الذي يتميز به صغار السن، وعمدت إلى ترويج أساطير وخرافات مفادها أن دولة إسرائيل بحاجة دائمة إلى الدفاع عن نفسها أمام جيرانها العرب، الذين يستهدفونها ويحيطون بها من كل جانب، الأمر الذي جعل التطوع في صفوف قوات النخبة من الأعمال المرموقة، وفقا للمسيري.
لكن الوضع قد تغير في العقود القليلة الماضية، وانخفضت الروح القتالية لدى الشباب، مما دفعهم إلى الفرار من الخدمة العسكرية، وهو ما عدّه المسيري مؤشرا مهمًّا على قرب زوال الكيان الصهيوني، خاصة أن مسألة القوة العسكرية تُعد بالنسبة لجيش الاحتلال مسألة وجودية.
ففي عام 1997، نشأت حركة شبابية جديدة تدعو إلى إلغاء التجنيد الإجباري، تحت اسم “بروفايل جديد”، بينما يشير استطلاع رأي أجري عام 2000، إلى أن ثلث الشباب الإسرائيلي صرَّح برغبته في تحاشي الخدمة العسكرية.
وبعد مرور 25 عاما على هذا الاستطلاع، نستطيع أن نرى نتائج ذلك في غضون الحرب الأخيرة التي يشنها الجيش الإسرائيلي على غزة. ففي يونيو/حزيران الماضي، وقَّع عشرات من جنود الاحتياط الإسرائيليين أول رسالة لرفض الخدمة العسكرية في القطاع.
وفي نهاية ديسمبر/كانون الأول 2023، حُكم على الشاب الإسرائيلي تال ميتنيك (18 عاما) بالسَّجن 30 يوما، لرفضه التجنيد في الجيش أو المشاركة في الحرب الراهنة على غزة، بعدما اعتبرها “حملة انتقامية”. وقد لجأت إسرائيل في الآونة الأخيرة إلى تجنيد الأفارقة من طالبي اللجوء، بعدما عرضت عليهم منحهم إقامة دائمة مقابل المشاركة في المجهود الحربي داخل غزة.
مقومات حياة إسرائيل من خارجها لا من داخلها
بنى المشروع الصهيوني استعماره للأراضي الفلسطينية بديلا للاستعمار البريطاني، فبحسب ما ذكره المؤرخ الفرنسي ماكسيم رودنسون في دراسته “فلسطين.. حالة فريدة في تاريخ إنهاء الاستعمار”، تمتَّع المشروع الصهيوني بحماية القوة البريطانية المهيمنة، التي ساعدت المستوطنين الجدد على تكوين وجود خاص بهم بشكل منفصل ومهيمن، وذلك بالتوازي مع قمع واضطهاد الوجود الفلسطيني.
فكانت بريطانيا هي مَن وضع حجر الأساس للوضع المتأزم الذي نشهده حاليا. ورغم جلاء الاستعمار البريطاني، فإن الفلسطينيين لم يُمنَحوا يوما حريتهم.
وقد استقى الاستعمار الصهيوني أفكاره من أسس الإمبريالية الأوروبية للقرن 19، ويرى كثير من المؤرخين والمفكرين أن استمرار المشروع الصهيوني لأكثر من 70 عاما لا يعود إلى نجاح المشروع في حد ذاته، بل إن سبب استمراره الجوهري والمفصلي هو الدعم الخارجي الأميركي والبريطاني، الذي جعل وجود إسرائيل يعتمد على الغرب تقريبا في كل المناحي.
ولولا ذلك ما كانت إسرائيل موجودة حتى يومنا هذا. ولكن للسبب ذاته تقريبا، نجد أن المجتمع الإسرائيلي من الداخل أصبح يعاني من الهشاشة، فهو مجتمع مليء بالمشكلات والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، يعيش أفراده في خوف، مع قدر قليل جدا من الشعور بالأمان.
وفي مقال له نُشر على صفحات “الجزيرة نت” عام 2006 بعنوان “نهاية إسرائيل”، يشير الدكتور عبد الوهاب المسيري إلى أن مسألة زوال إسرائيل متجذرة في وجدان المجتمع الصهيوني، حتى قبل إقامة دولتهم، حيث أدرك كثير من الصهاينة أن حلم المشروع الصهيوني سيتحول في نهايته إلى كابوس، وهو أمر حاضر في الأدبيات الإسرائيلية.
ففي قصة الروائي الإسرائيلي أبراهام يهوشوا “في مواجهة الغابة”، ترمز الغابة التي احترقت في النهاية، بعدما أضرم النار فيها رجل عربي أصيب بعاهة إبان المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في حق القرى الفلسطينية عام 1948؛ إلى إسرائيل.
وفي ذروة الانتشاء الصهيوني بالنصر الذي حققه جيش الاحتلال في حرب عام 1967، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك، إسحق رابين، للجنرال أندريه بوفر أثناء مشاهدته صحراء سيناء من طائرته المحلقة: “لكنْ ما الذي سيبقى من كل هذا؟”.
ومع اليقين المتجذر بزوال إسرائيل في الداخل، كان صعود تيار “ما بعد الصهيونية” في إسرائيل إبان ثمانينيات القرن الماضي قد وضع المشروع الصهيوني على المحك، فهو في الدراسات الفلسفية الغربية يعني “نهاية الصهيونية”، ويكسر تابوهات المجتمع الإسرائيلي.
ولهذا عُدَّ هذا الجيل داخل إسرائيل معاديا للدولة وشرعية وجودها، وهذا لأنهم أعادوا النظر في جوهر الفكر الصهيوني وقاموا بتفكيكه، كاشفين عن التناقضات التي تعج بها فكرة إسرائيل.
وكان من أبرز رواد هذا التيار إيلان بابيه، الذي اشتهر بمؤلفاته القيمة، مثل كتابَيْه “التطهير العرقي للفلسطينيين”، و”10 خرافات عن إسرائيل”، إلى جانب عدة أبحاثٍ كان أحدها دراسة بعنوان “ما بعد الصهيونية.. توجهات جديدة في الخطاب الأكاديمي الإسرائيلي حول الفلسطينيين والعرب”، التي تناول فيها بالبحث جيل ما بعد الصهيونية من المؤرخين والمفكرين الإسرائيليين، وكيف استطاعوا تحدي السردية الإسرائيلية السائدة والقائمة لسنوات طويلة على شرعنة الاحتلال، وغض الطرف عن التهجير القسري والإبادة الجماعية للفلسطينيين.
المصدر: الجزيرة