اخر الاخبار

ردت 36 منها.. المفوضية تنجز إجابات 528 طعناً انتخابياً من أصل 872

أعلنت مفوضية الانتخابات، اليوم الأربعاء، إن الهيئة القضائية المختصة...

تحرك بعد بلاغ.. النزاهة تضبط 9 متهمين بسرقة مواد من مقالع غير مجازة في المثنى

أفادت هيئة النزاهة الاتحاديَّة، اليوم الأربعاء، بتمكُّنها من ضبط...

طهران وبغداد تتصدران المدن الأكثر تلوثاً في العالم

أظهرت بيانات حديثة من منصة "IQAir" أن كل من...

وزير التخطيط: 8 ملايين أسرة في العراق.. وعدد السكان بلغ 46 مليوناً و118.793 نسمة

أعلن وزير التخطيط محمد علي تميم، اليوم، النتائج النهائية...

ذات صلة

سد البدعة يئن من الجفاف: شريان مائي يهدد ذي قار بالعطش

شارك على مواقع التواصل

في مشهد يحاكي أزمات الجفاف الكبرى في العالم، تحوّل نهر “البدعة” في قضاء الشطرة شمالي مدينة الناصرية، مركز محافظة ذي قار، إلى ما يشبه الأخدود اليابس، بعدما غابت عنه المياه التي كانت تموج فيه وتمنحه الحياة. النهر الذي كان يُعد شريانًا حيويًا يغذي المدن والقرى، صار اليوم أرضًا صلبة يمكن اجتيازها سيرًا، في دلالة مريرة على واقع الشحّ المائي الذي يعصف بجنوب العراق.

لم تكن هذه المرة الأولى التي يشهد فيها العراق تراجعًا في الموارد المائية، لكن ما حدث في نهر البدعة يمثل ذروة الأزمة. فالسدة التي طالما كانت بمثابة ميزان مائي حساس، تضبط تدفق المياه بين المنبع والمصب، باتت اليوم خارج الخدمة بفعل تقلص الإطلاقات المائية بشكل غير مسبوق. المناسيب، التي كانت تصل في سنوات سابقة إلى أكثر من 90 مترًا مكعبًا في الثانية، تراجعت إلى نحو 64 مترًا مكعبًا عند حدود محافظتي واسط وذي قار، وهي نسبة غير كافية لتأمين الاحتياجات الأساسية، سواء في الشرب أو الزراعة أو الحفاظ على النظام البيئي.

معلم تاريخي يئن من العطش

سد البدعة، الذي يضم ست بوابات مائية، ليس مجرد منشأة إروائية فحسب، بل هو معلم تراثي موغل في القدم، يعود تاريخ إنشائه إلى عام 1927 إبان العهد الملكي. أُنشئ آنذاك لهدف مزدوج: تنظيم الفيضانات المدمّرة التي كانت تتهدد الجنوب العراقي، وإحياء آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية التي كانت تعتمد كليًا على مياه السد.

لكن اليوم، يقف السد عاجزًا أمام الواقع الجديد. فشبكة المياه التي كانت تعتمد عليه، من محطات إسالة ومشاريع ري، باتت مهددة بالتوقف الكامل. المدن الكبرى مثل الناصرية، وسوق الشيوخ، والدواية، والشطرة، وصولًا إلى المناطق الشرقية من المحافظة، باتت على أعتاب أزمة مائية خانقة قد تكون الأصعب منذ عقود.

لا تكمن الأزمة في انخفاض المناسيب فحسب، بل في التبعات المركّبة التي تسببت في هذا التدهور. يشير ناشطون ومهتمون بالشأن البيئي في قضاء الشطرة إلى أن الإطلاقات المائية التي كانت تصل سابقًا من سدة الكوت، وكانت تبلغ نحو 95 مترًا مكعبًا بالثانية، تراجعت إلى نحو 50 مترًا مكعبًا فقط، وذلك بعد تشغيل مشروع ماء البصرة. هذا التحول أدى إلى تراجع كبير في كفاءة نقل المياه إلى الجنوب، ما انعكس مباشرة على تغذية الأهوار وتزويد محطات الإسالة التي تعتمد بالكامل على مياه نهر البدعة المتفرعة من نهر الفرات.

وفي ظل هذه الظروف، تحولت السدة التي كانت علامة على التوازن والخصب، إلى مثال على الإهمال والتراجع. انتقادات الأهالي لم تتوقف عند حدود الشكوى، بل طالت السياسات الحكومية في التعامل مع ملف المياه، معتبرين أن التباطؤ في اتخاذ الإجراءات الكفيلة بحماية المصادر المائية أدى إلى تفاقم الأزمة.

منذ إنشائه قبل ما يقارب المئة عام، كان نهر البدعة وسدّه صمام أمان لمناطق شاسعة من جنوب العراق. مرّت عليه مواسم شتاء قاسية، وصيفات حارة، ومراحل من الحروب والإهمال، لكنه ظل حاضرًا في الذاكرة الجماعية كرمز للخصب والاستقرار. أما اليوم، فبات يمثل انعكاسًا واضحًا لأزمات العراق المعاصرة: مناخ مضطرب، إدارة مائية مرتبكة، وتحديات بيئية لا تجد استجابة حقيقية من المؤسسات المعنية.

ورغم ما يثار من دعوات حكومية لتحسين كفاءة التوزيع وبناء منشآت جديدة، إلا أن الواقع على الأرض لا يزال قاتمًا. ما لم يُتخذ تحرك جاد وعاجل، فإن الجفاف الذي ضرب نهر البدعة لن يكون الأخير، بل نذير لما قد تواجهه باقي الأنظمة المائية في البلاد.

لا تنتهي القصة عند نهر جفّ، بل تبدأ من هناك. فجفاف نهر البدعة هو مؤشر على خلل أوسع في النظام المائي والبيئي في العراق. وما لم يُعالج هذا الخلل بجديّة، فإن مناطق شاسعة من جنوب البلاد قد تجد نفسها في مواجهة جفاف لا يشمل المياه فحسب، بل يمتد ليطال الزراعة، والثروة الحيوانية، والاستقرار البشري.