حين أُعلن عن قيام دولة إسرائيل في فلسطين، لم يكن قد مر على تأسيس الجيش العراقي سوى 27 عاماً فقط، فزحفت إلى فلسطين قوات من هذا الجيش، وصل تعدادها إلى 19 ألف جندي وضابط؛ ليخوض الجيش العراقي معارك عديدة ضد الصهاينة، كان أشهرها “معركة جنين” في 31 مايو/أيار 1948، والتي كان الضابط العراقي “عمر علي” أحد أبطالها، فكانت تلك المعارك، رمزاً لبطولة الجيش العراقي واستبساله جنباً إلى جنب مع المتطوعين الفلسطينيين.
ولد عمر علي في العراق في مدينة كركوك عام 1910م، من أسرة البيرقدار من القومية التركمانية، بعد إنهاء دراسته الثانوية التحق بالكلية العسكرية في بغداد فتخرج فيها ملازماً ثانياً في سبتمبر/أيلول 1928م، ثم انتمى بعد ذلك إلى كلية الأركان، وتدرج في مراتب الجيش حتى أصبح عقيداً ركناً عام 1946م، وكان العراق حينها مملكة تحكمها الأسرة الهاشمية.
بعد رحيل بريطانيا عن فلسطين يوم 15 مايو/أيار 1948، وإعلان زعماء العصابات الصهيونية قيام دولة إسرائيل، وتحرك الصهاينة لتهجير سكان القرى الفلسطينية والاستيلاء على الأراضي، تحركت قوات عسكرية من 7 دول عربية، باتجاه فلسطين.
يذكر الباحث عبد العزيز أمين عرار أن عدد القوات العربية التي ذهبت إلى فلسطين في بداية المعارك في شهر مايو/أيار 1948 كانت على النحو التالي: الجيش المصري 10 آلاف مقاتل، والجيش العراقي 3 آلاف، والجيش الأردني 4500، والجيش السوري 3 آلاف، والجيش اللبناني ألف مقاتل.
أي أن مجموع القوات العربية كان 21500 مقاتل، رغم أن العرب كانوا يومها 70 مليون نسمة.
بينما كان الجيش الاسرائيلي والعصابات الصهيونية حوالي 65 ألفاً، والذين يشكلون 10% من مجموع اليهود في فلسطين في ذلك الوقت، ومع استمرار المعارك زاد عدد القوات العربية فأصبح تعدادها حوالي 55 ألف مقاتل.
كان الفوج الآلي العراقي بقيادة المقدم “نوح الجلبي” هو أول قوة تصل إلى جنين شمالي الضفة الغربية، وذلك يوم 28 مايو/أيار 1948، وبدأت تلك القوات بتنظيم خطوط الدفاع عن جنين بالتعاون مع المتطوعين الفلسطينيين.
في هذه الأثناء هجمت القوات الاسرائيلية على القوات العراقية، وكانوا أكثر عدة وعتاداً، فاضطر المقدم “نوح الجلبي” إلى التراجع إلى بناية مخفر الشرطة في المدينة، والتي كانت عبارة عن قلعة قديمة.
حوصرت القوات العراقية مع المتطوعين الفلسطينيين داخل هذه القلعة، فطلبوا التعزيزات بعد أن أوشكت ذخيرتهم على النفاد.
كان وضع القوات العراقية الأخرى في فلسطين حرجاً أيضاً؛ إذ كان لواء المشاة الرابع بقيادة العقيد الركن “صالح زكي” لا يزال لم يكتمل وصوله إلى نابلس، وكانت أول القطاعات الواصلة إلى نابلس الفوج الثاني لواء المشاة الخامس الذي كان تحت إمرة القائد “عمر علي”، الذي وضع خطة سريعة لتحرير القوات المحاصرة، والذي أشيع أنه تحرك دون أوامر من قيادته العليا التي طلبت منه التريث، فاستعان عمر علي بأعداد كبيرة من مناضلي قرى نابلس، وجنين، وعرابة، وبرقين، ورمانة، وسيلة الظهر، وصانور.
وتعرضت هذه القوات لقصف جوي في طريقها إلى جنين، لكن لم تستطع القوات الصهيونية إيقاف زحف القوات العراقية.
تقدم الجيش العراقي عبر الطريق العام، بينما تقدم المناضلون الفلسطينيون من الجبال المحيطة بالمدينة بأعداد كبيرة، ومعهم عدد من النساء يزغردن ويشجعنهم ويرددن أهازيج، منها:
يا زتون ما مروا عنك عراقية *** بارودهم في كتوفهم مجلية
يا زتون ما مروا عنك غير اثنين *** الحرس والنقطة ع رأس العين
وعند الظهر وصلت قوات الجيش العراقي بقيادة عمر علي للمناطق القريبة للقلعة، ونجحت في فك الحصار عنها، وكبدت القوات الإسرائيلية 350 قتيلاً، وغنم العرب كميات كبيرة من السلاح والعتاد والألغام، واستشهد 20 جندياً وضابطاً عراقياً و20 من المناضلين الفلسطينيين و46 من المدنيين.
دُفن شهداء الجيش العراقي في فلسطين في مقبرة سميت “مقبرة شهداء الجيش العراقي” لا تزال موجودة حتى اليوم.
دارت معارك كثيرة لاحقاً بين القوات العربية والعصابات الصهيونية، حقق فيها الجيش العراق تقدماً واضحاً، ولكن في شهر مايو/أيار عام 1949 انسحب الجيش العراقي من المناطق الفلسطينية بقرار واتفاق بين قيادات الأردن والعراق الهاشميين، وجاءت قوة أردنية لترابط في المناطق التي تحت سيطرة الجيش العراقي.
موقف علي من انقلاب 1956
عاد عمر علي إلى العراق وتنقل بين المناصب العسكرية، وفي الساعة السادسة من فجر يوم الاثنين 14 يوليو/تموز 1958، سمع عمر علي أخبار تحركات عسكرية ضد العائلة المالكة في بغداد، والإعلان عن ثورة يقودها ضباط من الجيش العراقي.
أوعز حينها عمر علي إلى القوات التي كانت تحت إمرته، بالتحرك لتأمين سلامة الحكومة والعائلة المالكة وحفظ النظام، ولكن سيطرة الضباط المرتبطين بالثورة حالت دون ذلك، فقد سيطروا مسبقاً على معظم القوات العسكرية في العراق.
مساء يوم 14 يوليو/تموز ودّع القائد عمر علي منتسبي وحدات فرقته، وغادرها فجر يوم 15 يوليو/تموز متوجهاً إلى بغداد، وذهب إلى ديوان وزارة الدفاع، والتقى بقادة الثورة، العقيد الركن عبد السلام عارف، واللواء الركن عبد الكريم قاسم، الذي كان مشاركاً في معارك فلسطين مع عمر علي.
حاول عمر علي شرح موقفه من الثورة وسبب إعطائه الأوامر للتحرك ضد القوات التي سيطرت على الحكم، بأنه كان يتبع البروتوكول العسكري الموضوع في حال وجود طوارئ في البلاد.
وأنه لم يكن لديه علم مسبق بهذه الثورة وهويتها الحقيقية، ولكن تم اعتقاله وتقديمه للمحكمة العسكرية بتهمة التآمر ضد الثورة، وحُكم عليه بالإعدام.
في مارس/آذار عام 1960 أصدر عبد الكريم قاسم قراراً بتخفيف عقوبة الإعدام الى السجن لمدة 7 سنوات، ثم خففت عقوبة السجن إلى 5 سنوات.
بقي القائد عمر علي في السجن حتى صدور قرار الإفراج عنه عام 1964، وبعد إطلاق سراحه، عاش عمر علي ما تبقى من حياته في مسقط رأسه مدينة كركوك، مبتعداً عن الحياة العامة، وفي عام 1974 تعرضت السيارة التي كانت تقله لحادث سير فتوفي على الفور، تاركاً وراءه سجلاً حافلاً بالبطولات لا يزال يتذكره العراقيون والفلسطينيون على حد سواء.