تشير تحركات زعيم التيار الوطني الشيعي، السيد مقتدى الصدر خلال الأشهر الماضية إلى نمط لافت من الدعوات الجماهيرية المتكررة ثم التراجع عنها، في سياقات مشحونة سياسيًا وإنسانيًا، خصوصًا ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
هذه التحركات، التي تتراوح بين الدعوة إلى اعتكاف ديني أو مظاهرة حاشدة، وبين التراجع أو التأجيل في اللحظة الأخيرة، تكشف عن إدارة مرنة ومدروسة للزمن السياسي والجماهيري، يُراد منها إيصال الرسائل بأعلى صوت دون الاصطدام المباشر بالواقع المتقلب.
سجلّ الدعوات والتراجعات: تكتيك محسوب؟
في 18 أيلول/سبتمبر 2024، دعا الصدر إلى تظاهرة كبرى لنصرة الشعب الفلسطيني، لكن الدعوة أُلغيت لاحقًا دون توضيحات تفصيلية.
بعد ذلك، في 26 آذار/مارس 2025، أعلن الصدر نيته الدخول في “اعتكاف” – وهي خطوة ذات أبعاد دينية وسياسية عميقة في قاموسه الخطابي – قبل أن يُلغيه هو الآخر لاحقًا.
ثم جاء إعلان الدعوة الجديدة لمظاهرة تضامنية مع غزة في نيسان/أبريل الحالي، والتي شهدت تعبئة واضحة بين أوساط التيار، لتتكرر ذات الخاتمة: الإلغاء في اللحظة الأخيرة.
هذا التسلسل الزمني ليس تفصيلاً عابراً، بل يعكس مقاربة سياسية باتجاهين: أولاً، المحافظة على الحضور المستمر في المشهد السياسي والشعبي من دون الدخول في صدامات أو تحركات ميدانية مكلفة. وثانيًا، إبقاء الجمهور في حالة تعبئة مستمرة، عبر رسائل متكررة تكرّس فكرة “الاستعداد الدائم” للنداء الصدري.
تحليلات المراقبين: بين الواقعية السياسية واستعراض القوة
المحلل السياسي رافد العطواني أرجع قرار الصدر الأخير بتأجيل التظاهرة إلى معطيات إقليمية دقيقة، في مقدمتها المقترح المصري الذي عُرض على حركة حماس بشأن هدنة إنسانية محتملة.
وقال العطواني لـ “إيشان”، إن الصدر، “بعد اطلاعه على فحوى المقترح أو تلقّيه إشارات بشأنه، فضّل الانتظار وعدم تعقيد المسار التفاوضي، مُظهراً موقفًا حريصًا على إعطاء أولوية لوقف التهجير والقتل في غزة”.
قال المحلل السياسي القريب من التيار الصدري، رافد العطواني، إن قرار تأجيل المظاهرات من قبل زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر يرتبط بجملة من المعطيات السياسية الإقليمية، أبرزها المقترح المصري الذي تسلّمته حركة حماس مؤخراً.
وأوضح العطواني أن هذا المقترح يتضمن بدء حوارات قد تفضي إلى هدنة جديدة في غزة، وأن حماس أبلغت الجانب المصري بنيّتها الرد خلال 48 ساعة. وأشار إلى أن الصدر، بعد اطلاعه على تفاصيل هذا المقترح أو تلقيه رسائل بشأنه، فضّل انتظار المخرجات قبل اتخاذ أي خطوات تصعيدية في الداخل العراقي، حرصاً على عدم التأثير سلباً على مسار المفاوضات، خاصة إذا كانت تهدف إلى رفع المعاناة عن سكان غزة ووقف القتل والتهجير الممنهج من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
وأضاف العطواني أن الصدر يُدرك حساسية اللحظة الإقليمية، وهو قارئ جيد لتوازنات المشهدين الدولي والعربي، ولا يرغب بإرهاق أنصاره أو تشتيت جهدهم، لا سيما وأنه يتهيأ لإحياء ذكرى استشهاد والده المرجع محمد محمد صادق الصدر من خلال مسيرة دعا إليها في وقت سابق، ضمن تقليد اعتاد عليه سنوياً.
وختم العطواني بالقول إن “تأجيل المظاهرات لا يعني التراجع عن المطالب، بل هو خطوة مدروسة بانتظار ما ستؤول إليه نتائج المقترح المصري، معتبراً ذلك دليلاً على حرص الصدر على استثمار اللحظة السياسية لما فيه مصلحة القضايا الإقليمية والداخلية معاً”.
وفي السياق ذاته، يرى المحلل نبيل العزاوي أن “هذه المواقف تعبّر عن وعي سياسي كبير، فالصدر يسعى من خلالها لإيصال رسالة أخلاقية واضحة ضد المجازر في فلسطين، لكنه يفسح في الوقت نفسه المجال للدبلوماسية والتحركات السياسية الجارية، خصوصًا في ظل مفاوضات بين طهران وواشنطن قد تنعكس مباشرة على الملف الفلسطيني”.
وبيّن العزاوي في حديثه لـ “إيشان”، أن “إلغاء التظاهرة في هذا التوقيت لا يعني تراجعاً عن الموقف، بل يُعد بادرة لمنح الجهود الدبلوماسية فرصة لإيجاد حل للأزمة، خصوصاً في ظل وجود مفاوضات غير مباشرة بين الجانب الإيراني والأميركي، والتي من المتوقع أن تُلقي بظلالها على مسار القضية الفلسطينية”.
وأشار إلى أن “زعيم التيار الصدري يتابع باهتمام المتغيرات الدولية، ومنها التصريحات الأخيرة للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي وجّه انتقادات حادة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، واعتبر الحرب الجارية على غزة عبثية، مما قد يُمهّد لضغوط لإنهائها”.
وأضاف أن “السيد الصدر يتفاعل مع هذه التطورات بحذر وقراءة دقيقة، ويمنح مساحة للتحركات السياسية والمفاوضات الجارية”، مشيراً إلى أنه “سيتخذ المواقف المناسبة لاحقاً بناءً على مخرجات تلك التحركات، دون استبعاد العودة إلى التصعيد الشعبي إذا لم تُسفر المفاوضات عن نتائج ملموسة”.
بين المبادئ والتكتيك الانتخابي
ومع أن الصدر دائم التأكيد على استقلالية مواقفه عن الحسابات الانتخابية الضيقة، إلا أن مراقبين يعتبرون هذا السلوك المتكرر – الدعوة ثم الإلغاء – جزءًا من أسلوب تعبوي وتكتيكي مدروس، يهدف إلى اختبار الجهوزية، وشحذ القواعد، وإظهار التأثير الجماهيري في أي لحظة، خصوصًا مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية.
ويُنظر إلى هذا النوع من التحركات كـ”بروفة سياسية” من شأنها رفع معنويات الجمهور، وتهيئته لمرحلة لاحقة قد تكون مفصلية في مستقبل التيار السياسي داخل العراق. كما أن استخدام القضية الفلسطينية كإطار جامع أخلاقي وإنساني يضمن أكبر قدر من التفاعل الشعبي، في وقت تُظهر فيه قوى سياسية أخرى نوعًا من الحذر أو الجمود في مقاربتها للملفات الخارجية.
تحركات الصدر في الفترة الأخيرة لا يمكن قراءتها على نحو أحادي. فهي تعبّر عن موقف وجداني وإنساني من القضية الفلسطينية، لكنها أيضًا تندرج ضمن هندسة سياسية دقيقة للزمن والمزاج الجماهيري، تُراعي المتغيرات الإقليمية، وتُبقي جمهور التيار في حالة ترقّب واستعداد.
وقد تكون هذه السياسة القائمة على الدعوة ثم التراجع، مؤشراً على محاولة الصدر الحفاظ على موقعه كلاعب إقليمي مؤثر، وفي الوقت نفسه زعيم شعبي قادر على تحريك الشارع ساعة يشاء، ضمن استعداد مبكر لمعركة انتخابية قادمة، يبدو أنها ستكون حامية وغير تقليدية.