في الواحد والعشرين من شهر كانون الأول، عام 1914، بدأت القوات البريطانية بعملية دخولها إلى محافظة البصرة، التي كانت آنذاك تحت سيّطرة العثمانيين، والذين دخلوا الحرب العالمية الأولى في أواخر تشرين الثاني من عام 1914.
الحرب العالمية الأولى كانت بين مجموعتين، الأولى “الوفاق الثلاثي”، وتضم فرنسا وبريطانيا وصربيا والجبل الأسود وبلجيكا، والثانية دول الوسط (المركز) والمؤلفة من النمسا وهنغاريا (المجر) وألمانيا، ثم انضمت اليابان إلى الحلفاء لرغبتها في بسط نفوذها على الصين، والسيطرة على منطقة شانتونغ الصينية التي كانت تحت سيطرة ألمانيا، فالتحقت الصين بدورها إلى صف الحلفاء.
واتّخذت الدولة العثمانية موقف الحياد أولا، لكنها اضطرت للوقوف بجانب دول الوسط في تشرين الثاني عام 1914، دفاعا عن حدودها المهددة من نفوذ بريطانيا.
ومع ضعف الدولة العثمانية، بدأت قواتها تتراجع نتيجة الهزائم، وانسحبت من البصرة في ليلة 19 ـ 20 / 11 / 1914 ، عبر طريقي القرنة والناصرية، وقد تُركت البصرة من دون أي سلطة إدارية رسمية، وقد علم البريطانيون بذلك من خلال الشيخ خزعل، شيخ المحمرة.
وعلى الأثر، تحركت السفن البريطانية (اسبيكل وأدون) نحو البصرة، وقد وصلتا في الساعة الخامسة والنصف مساءاً، من يوم 21 تشرين الثاني.
وأعلن رئيس البلدية ، حينذاك عن مجيء البريطانيين إلى البصرة وعلى الرغم من إن عدداً من الجنود البريطانيين نزلوا إلى المدينة في حينه ، إلا أنهم عادوا إلى سفنهم في الليلة نفسها وكان نزولهم بشكل كبير في ليلة (22 تشرين الثاني) الذي وصلت فيه القوات البريطانية الزاحفة براً، وجرى احتلال المراكز الرسمية فيها ورفع العلم البريطاني عليها، وتم أسر القنصل الألماني وكاتبه، وأربعة من الألمان، وسُفروا إلى الهند .
“اتسم الدفاع العثماني عن البصرة آنذاك بعضف التحشيد ونقص التجهيزات، وقلة المعلومات التي لديها”، وفق ما يقول كتّاب مختصون بالتأريخ.
عزز البريطانيون قواتهم التي أنزلت في الفاو، بقوات إضافية تحركت من الهند في الأيام الثلاثة التالية للإنزال، على أن تُجهَّز بقوات أخرى تلحق بها بعد ذلك، وقد وصلت التعزيزات إلى شط العرب.
ولم يستطيع العثمانيون استخدام الأهالي كثيراً في معاركهم على الرغم من أنهم حصلوا على متطوعين، إلا أن هؤلاء كانوا أقل خبرة وتدريباً وأضعف انضباطاً من أقرانهم العسكريين، وتسببوا في معركتي سيحان وسهل (كوت الزين) بإحداث اضطراب داخل الصفوف العثمانية وأضاعوا عليها عنصر المباغتة في المعركة الأولى.
دخلت القوات العثمانية البصرة رسمياً، صباح اليوم الثالث والعشرين من شهر تشرين الثاني سنة 1914، واستعرضت في شوارع البصرة وانتهت إلى مكان عند جسر العشار، حيث دُعيَ كبار الشخصيات البصرية المتنفذة اقتصادياً واجتماعياً ، وقد رفع العلم البريطاني ، وألقى نعوم عبو ، مترجم القنصلية البريطانية السابق (بعد إخراجه من السجن العثماني) خطاباً سبق وان أعده سير برسي كوكس، وهو يؤكد المضامين السابقة ذاتها للبيانات البريطانية ، وطلب تعاون الجمهور.
ووعد بخطابه بـ “حرية الحياة والعبادة”، وندد بالسلطة العثمانية وحمَّلها كل أوزار الخراب، وفي مساء اليوم نفسه، أجبرت القوات البريطانية شيخ الزبير إبراهيم آل عبد الله الابراهيم على الاعتراف بالسلطة البريطانية.
وبعد استقرار الموقف في البصرة، رأت بريطانيا، أن تعزيز الموقف العسكري يتطلب إقامة وجود قوي عند القرنة وآخر عند الشعيبة ـ الواقعة على بعد خمسة أميال إلى الشمال من الزبير.
وعقب المراسلات بين القيادة العسكرية البريطانية في البصرة والهند ولندن لتقييم الموقف العسكري، حصلت الموافقة على التقدم نحو القرنة، وبدأ الاستطلاع البريطاني باتجاهها بعد ثلاثة أيام من احتلال البصرة، وصاحبه صدام مدفعي قصير مع العثمانيين.
تم احتلال منطقة المزيرعه في 8 / 12، وعبرت القوة البريطانية نهر دجلة واحتلت القرنة، الأمر الذي أدى إلى استسلام القوة العثمانية فيها للبريطانيين في 9 / 12 مع قائدها الزعيم صبحي بك، بعد إن فشلت كل جهودها في الدفاع عن المنطقة وحوصرت فيها، رغم أن العثمانيين حاولوا بعد احتلال البريطاني في البصرة تعزيز مواقعهم وتقوية تحشداتهم في المزيرعة والقرنة، ولكنها لم تكن بمستوى متطلبات الموقف العسكري.
بقت القوات البريطانية تتقدم في العراق، حتى دخلت بغداد عام 1917، وهناك انتصرت على القوات العثمانية، وقد لعبت قوات الهند البريطانية “دورا مهما في هذه الحرب”، وفق ما يقول فايز الخفاجي، الباحث في تاريخ العراق السياسي المعاصر.
وبحسب ما أرَّخه الخبير القانوني، المرحوم طارق حرب قبل وفاته، فإن “دخول القوات البريطانية إلى العراق، لم يصاحبه أي مشاكل، ولكن عام 1920 ساءت تصرفات المندوب السامي البريطاني أرنولد ويلسون، مما أثار العشائر العراقية في بغداد وكربلاء والنجف وغيرها”.
عقب ذلك، اندلعت احتجاجات عديدة ضد البريطانيين غرب بغداد وامتدت إلى جنوب البلاد وشمالها، بسبب التصرفات الهوجاء لبعض القادة والجنود البريطانيين، وبدأت المطالبات بتشكيل حكومة وطنية.
ووفق ما يقول أستاذ التأريخ فاروق صالح العمر، فإن “القوات البريطانية تجنبت أول الأيام دخول المدن المقدسة، ولكن بعد مدة دخلوها فحدثت مقاومة داخلية وتشكلت جمعيات المقاومة التي بدأت تتحشد وتقوى بشكل تدريجي”.
ويبيّن العمر، أن “العمل الثوري بدأ بالسر، ثم تطور فكانت انتفاضة النجف عام 1918 والتي سقط خلالها الكثير من الضحايا، وكانت بقيادة دينية وعشائرية في النجف وقيادة فكرية في بغداد، وكانت هذه مقدمة لثورة عام 1920”.
كل هذه الأمور، أدّت إلى ثورة العشرين ضد البريطانيين، وحينها، استخدم العراقيون “مكوارهم” ضد أسلحة الجيش البريطاني، وأوقعوا خسائر فادحة في صفوفهم، وحققوا نتائج مهمة، منها تراجع بريطانيا عن خططها، وأصبح للعراق نظام ملكي ومجلس نيابي وحكومة ومجلس أمة لاحقا، بحسب ما يقول المؤرخون.