في موسم انتخابي مشحون بالعاطفة والاندفاع، تحوّلت الدعاية السياسية في العراق إلى ساحة تستحضر قاموس الشارع ولغة الملاعب، بعدما تبنّى عدد من المرشحين ألقاباً شعبوية تُسَوَّق لهم كما تُسوَّق نجوم كرة القدم أو وقعوا ضحية ألقاب أطلقت عليهم.
ظاهرة تبدو طريفة للوهلة الأولى ، لكنها تكشف عن تحوّلٍ عميق في الخطاب السياسي وطرق التأثير في جمهور يبحث عن صورة سريعة أكثر من برنامج واضح.
من المدرّجات إلى اللافتات
على امتداد الحملات الانتخابية، ظهرت تسميات لافتة لمرشحين، بعضها أطلقه الجمهور أولًا عبر مقاطع فيديو وشعر شعبي، قبل أن تعتمدها الحملات بصورة ضمنية أو صريحة.
من بين الأسماء التي شاعت في التداول المحلي هو مسمى “واحد بغداد” المبنى على فكرة أعلى الأصوات، ولقب “رأس التريلة” الذي كان من نصيب رئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، الذي انتشر في تجمعات وحشود مؤيدة عبر مقاطع تردّد بيتًا شعبيًا قادراً على تثبيت اللقب في الوعي العام.
كذلك برزت شخصيات أخرى تحمل ألقابًا متنوعة مثل الأمين الذي وضعه عمار موسى إلى جانب صوره، ولقب “الريس” الذي اقترن مع اسم محمد الحلبوسي في محافل جمهور السنة، وتسمية ثقة الزعيم أطلقت علم بعض المرشحين.
فيما برزت بعض الألقاب السلبية مثل “لابوبو السنة” الذي لازم رئيس تحالف العزم مثنى السامرائي، و”أم عباية” الذي كان من نصيب أمطار المياحي.
على إن هذه الألقاب لا تصدر غالبًا من غرف الحملات الاحترافية، بل تتشكل في الشارع ومن ثم تُلتقط وتُستثمر في بناء صورة انتخابية جاهزة للتسويق.
كيف يُصنع اللقب السياسي؟
من منظور أنثروبولوجي، يشبه لقب المرشح آلية صناعة اللقب الرياضي في كرة القدم، ينتقل اللاعب من اسمه الحقيقي إلى لقب يعبّر عن قوته أو مهارته أو طابعه الجماهيري.
وفي السياسة العراقية، بات اللقب يلعب الدور نفسه فهو يؤسس هوية جاهزة للاستهلاك، ويقدّم صورة مكتملة دون الحاجة إلى شرح أو سرد طويل.
تبدأ التسمية عادةً من شاعر محلي، أو جمهور متحمّس، أو فيديو يتضمن تعليقًا حماسيًا، وبعد انتشاره في وسائل التواصل، يتحول إلى رمز يتم تداوله إعلاميًا، ثم يتحول تدريجيًا إلى علامة تُعرِّف المرشح في بيئته الاجتماعية.
وصفة جديدة بالتسويق السياسي
تراجع الخطاب البرنامجي لدى كثير من الكيانات، وافتقار المشهد السياسي لعلامات واضحة، جعلا اللقب فرصة ذهبية لتسويق المرشحين، فالمرشح الذي كان يتحدث سابقًا بلغة الإنجازات أو الوعود، أصبح اليوم يُقدَّم عبر سردية “النجم” أو “الشخصية المؤثّرة”.
هذا الأسلوب يختصر المسافة بين السياسي والناخب، لكنه يرفع منسوب الشخصنة إلى مستوى غير مسبوق.
الألقاب تعمل كمنتَجٍ دعائي كامل، سهل الترديد، سريع الانتشار، وقادر على توليد حماسة تسبق النقاش العقلاني.
لماذا ينجح هذا الخطاب؟
هناك ثلاثة عوامل رئيسية تدفع الألقاب إلى الواجهة:
أولًا: الاندفاع العاطفي
الجمهور ينجذب إلى الشخصية أكثر من البرنامج، خصوصًا في سياق سياسي مشحون بالتعب والإحباط.
ثانيًا: الحاجة إلى رمز
اللقب يقدّم صورة بطل محلي أو شخصية ذات حضور، ما يخلق حالة تماهٍ اجتماعي تشبه المدرجات.
ثالثًا: ضعف الخطاب السياسي التقليدي
حين يغيب المنجز وتغيب الرؤية، يملأ اللقب الفراغ ويصبح العنصر الأكثر جاهزية للتسويق.
شعبوية بطعم المنافسات الرياضية
انتقال الألقاب من عالم الكرة إلى السياسة ليس مجرد لعبة لغوية، بل تحوّل في طبيعة العلاقة بين الناخب والمرشح.
إذ بدل الخطاب التنموي المعتاد، صارت الساحة تميل إلى الشخصية ذات الكاريزما الرمزية، وكأن صناديق الاقتراع تحوّلت إلى مدرجات تبحث عن نجمٍ لا عن ممثلٍ تشريعي.
هذا التحوّل يعكس ميلًا متزايدًا نحو الشعبوية الرمزية، حيث تُستبدل الأفكار بالأسماء، وتُستبدل الخطط بصورةٍ واحدة تُعلَّق على اللافتة وتنتشر على الهاتف.
ومع توسّع هذه الظاهرة، يبقى النقاش مفتوحًا حول أثرها على الوعي الانتخابي، وحول قدرة السياسة على العودة إلى لغتها الأساسية: لغة البرامج والمساءلة، لا لغة الألقاب والتهليل.
