القصص التي تتحدث عن الاختراقات التجسسية التي تنظمها دولة الكيان تناهز المئات، وتكشف عن “مركزية التجسس في العقلية الأمنية والسياسية الإسرائيلية”، بحسب المختصين، لكن هذا الهوس التجسسي طال حليف تل أبيب الأبرز في التاريخ، ألا وهو واشنطن، الأمر الذي ظهر للعلن بعد “فضيحة بولارد”.
وتعد هذه الفضيحة واحدة من أبرز حلقات التجسس بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي أشارت صحيفة “نيوزويك” الأمريكية إن إسرائيل لم تتوقف عندها وواصلت عملياتها التجسسية”.
واحدة من أشهر عمليات التجسس الإسرائيلية على الحليفة الكبرى الولايات المتحدة الأميركية، وهي القضية التي أثارها وقام فيها بدور البطولة جوناثان جاي بولارد، وهو الاسم الذي تردّد بقوة في تاريخ الجاسوسية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، فقد وُلد جوناثان بولارد في 7 أغسطس/آب 1954 في تكساس، وعمل محللَ استخباراتٍ مدنيا في البحرية الأميركية، لكنه استغل منصبه للتجسس لصالح إسرائيل، ما تسبب في أزمة كبرى بين الحليفين.
نشأ بولارد في عائلة أكاديمية؛ إذ كان والده أستاذا في جامعة نوتردام، أما هو فقد تخرَّجَ في جامعة ستانفورد عام 1976 بدرجة في العلاقات الدولية، ورغم محاولاته الانضمام إلى وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، فقد رُفض بعد اكتشاف تناوله للمخدرات، واتجاهه لرواية قصص خيالية. لاحقا، حصل بولارد على وظيفة في البحرية الأميركية بوصفه محللا استخباراتيا، وهو الأمر الذي أتاح له الوصول إلى معلومات حساسة، ثم قاده في النهاية إلى الاتصال بالسفارة الإسرائيلية والتجسس لصالحها، حيث اتصل بولارد بالسفارة الإسرائيلية وقدم خدماته عبر الكولونيل أفيم سيلا الذي كان يدرس في الولايات المتحدة حينئذ، وقد عمل تحت إشراف وحدة تُسمى “لاكام” (LAKAM)، وهي وحدة استخباراتية داخل وزارة الدفاع الإسرائيلية.
وفي عام تجنيده نفسه عام 1984، قام بولارد ببيع أسرار عسكرية إلى إسرائيل من خلال تزويدها بصور فضائية وأسرار مهمة حول الجيوش العربية، وقد استخدمت إسرائيل بعض هذه المعلومات في عمليات عسكرية، مثل قصف مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس عام 1985. وبمرور الوقت، بدأت الشكوك تحوم حول بولارد في مكان عمله، خاصة بعد ملاحظات عن سلوكه غير المعتاد، ففي أكتوبر/تشرين الأول 1985، رُصِد بولارد يحمل حزمة من الملفات السرية إلى سيارة زوجته، ما أدى إلى وضعه تحت المراقبة، وفي 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1985، قُبِض عليه خارج السفارة الإسرائيلية بعد محاولته طلب اللجوء، كما أُلقي القبضُ على زوجته آن هندرسون أيضا.
بعد اعتقاله، تعاون بولارد مع السلطات الأميركية واعترف بجريمته كاملة، ورغم هذا التعاون فقد حُكم عليه عام 1987 بالسجن مدى الحياة، بينما حُكم على زوجته بالسجن لمدة خمس سنوات. وخلال المحاكمة زعم بولارد أن دافعه الأساسي كان حماية إسرائيل من أعدائها، بيد أن الوثائق أشارت إلى أنه كان يتلقى مبالغ مالية من الإسرائيليين.
كانت هذه القضية بمنزلة فضيحة كبيرة في مسار العلاقات الأميركية الإسرائيلية، حيث كانت إسرائيل قد نفت في البداية أي تورط لها، لكنها اضطرت لاحقا للاعتراف بعلاقتها ببولارد، وأعلنت أنشطة التجسس بوصفها تصرفا فرديا، وقد اعتذر رئيس الوزراء آنذاك شيمون بيريز عن القضية، وأكد أهمية العلاقات بين البلدين، وتفكيك الخلية الاستخباراتية التي كان يعمل في إطارها بولارد داخل الولايات المتحدة.
أمضى جوناثان بولارد ما يقرب من 30 عاما في السجن، وبعد الإفراج المشروط عنه في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، مُنع من مغادرة الولايات المتحدة حتى عام 2020. وطوال هذه العقود الثلاثة التي أمضاها بولارد في محبسه، استمرت إسرائيل في محاولاتها لاستعادته أو تخفيف عقوبته، ولكن الأميركان أصروا على إمضائه ثلاثين عاما كاملة.
من أهم المعلومات التي سربها بولارد ما يتعلق بمنظومات الأسلحة الكيميائية في دول مثل العراق وسوريا، بالإضافة إلى صور الأقمار الصناعية التي ساعدت في التخطيط لعمليات عسكرية، وقد كانت هذه المعلومات ذات أهمية كبيرة لإسرائيل في ظل الظروف الأمنية المتوترة في الشرق الأوسط في ذلك الوقت، ورغم الإفراج عن بولارد، فإن قصته تبقى واحدة من أبرز حلقات التجسس بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
“إسرائيل لن تتوقف”
في مايو/أيار 2014، نشرت صحيفة “نيوزويك” تقريرا بعنوان “إسرائيل لن تتوقف عن التجسس على الولايات المتحدة” يفيد بأن إسرائيل كانت تشن أنشطة تجسسية واسعة النطاق في الولايات المتحدة، ومع ذلك، تُكتِّم على هذا الأمر بسبب الضغوط السياسية من اللوبي المؤيد لإسرائيل، ووفقا للتقرير بدأت الأنشطة التجسسية الإسرائيلية في التسعينيات واستمرت بعد تعهد إسرائيل بالتوقف عن التجسس عقب فضيحة بولارد، ورغم التحذيرات المستمرة من مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، استمرت إسرائيل في أنشطتها دون عقوبات حقيقية بسبب العلاقات القوية والضغوط السياسية.
وقد أشار التقرير إلى أن الأنشطة التجسسية الإسرائيلية كانت تستهدف الحصول على معلومات حساسة في العديد من المجالات، بما في ذلك الصناعات الدفاعية والمؤتمرات العلمية، وقد استُخدمت وسائل مختلفة لجذب المسؤولين الأميركيين، مثل دعوات لزيارة إسرائيل، وتقديم الهدايا والامتيازات لهم، بما في ذلك المخدرات والنساء جزءا من جهود التجسس. ولفتت المقالة إلى أن المسؤولين الأميركيين كانوا على دراية تامة بهذا النشاط، لكن كان هناك تردد في اتخاذ إجراءات صارمة.
وقد أثار التقريرُ جدلا كبيرا، حيث واجه انتقادات من الداعمين لإسرائيل الذين اتهموا التقرير بمعاداة السامية. ورغم ذلك أكد مسؤولون سابقون في الاستخبارات الأميركية أن هذه الأنشطة التجسسية كانت حقيقية وتُشكِّل تهديدا كبيرا، مشيرين إلى أنه لو كانت دولة أخرى غير إسرائيل متورطة في مثل هذه الأنشطة، لكانت ردود الفعل الأميركية أشد.
أخيرا، أشار التقرير إلى أن هذه الأنشطة أثرت على مساعي إسرائيل للانضمام إلى برنامج الإعفاء من التأشيرات الأميركي، حيث أظهرت الأدلة التي جمعتها الوكالات الأمنية الأميركية أن الأنشطة التجسسية الإسرائيلية كانت عائقا كبيرا أمام تحقيق هذا الهدف.
تلك هي لمحة عن بعض العمليات التجسسية التي قامت بها إسرائيل على مصر وسوريا في ستينيات القرن العشرين، وعلى الحليفة الكبرى أميركا في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، وهي تكشف لنا أنها محور أساسي من محاور قيام هذه الدولة واستمرارها في الشرق الأوسط، وفي العالم أجمع، وكما نعلم، فإن ما خفي أعظم.