بعد أكثر من ثلاثة عقود على فرض الحظر الدولي على الأسطول البحري العراقي، لا يزال العراق يدفع ثمناً باهظاً لما يُعرف بسياسات ما قبل 2003، حيث يعاني أسطوله من القيود الدولية التي كبلته، ومنعته من رفع علمه على سفنه، وحرمت البلاد من استعادة سيادتها البحرية الكاملة.
مؤخرا أعلنت وزارة النقل العراقية أنها حققت “تقدماً ملموساً” في طريق رفع هذا الحظر، في وقت يرى فيه خبراء النقل والاقتصاد أن العراق قد يخسر فرصاً استراتيجية ضخمة إن لم يُستكمل هذا الملف بأسرع وقت ممكن.
حظر عمره 33 عاماً
في عام 1991، وعقب اجتياح العراق للكويت وما تبعه من حرب الخليج الثانية، فُرضت على العراق سلسلة من العقوبات الأممية، من بينها قيود صارمة على الأسطول البحري الوطني.
وبموجب هذه القيود، لم يُعترف بشهادات الملاحة العراقية، ولم يُسمح للعراق برفع علمه على سفنه، مما أدى فعلياً إلى تجميد حركة الأسطول العراقي في المياه الدولية، ودفع البلاد للاعتماد المكثف على الشركات الأجنبية لنقل البضائع والنفط.
في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، كان العراق يمتلك 17 باخرة تجارية تنقل البضائع من وإلى موانئه، وتُعد إحدى ركائز اقتصاده، لكن اليوم، وبعد الحظر والحروب وسوء الإدارة، لم يتبقّ سوى ست سفن فقط، ثلاث منها تعمل دولياً (البصرة، المثنى، الحدباء)، وسفينتان للخدمات، بالإضافة إلى باخرة واحدة مخصصة للحاويات (بغداد).
انهيار قطاع كامل
وفقاً لتصريحات عضو لجنة النقل والاتصالات في البرلمان العراقي، زهير الفتلاوي، فإن الحظر البحري “شكل ضربة قاسية لقطاع النقل البحري، وترك آثاراً لا تزال حاضرة حتى اليوم”، مشيراً إلى أن الاعتماد على الأساطيل الأجنبية كلف العراق مليارات الدولارات خلال العقود الثلاثة الماضية.
ويضيف الفتلاوي في تصريح صحفي، أن “الأسطول الحالي لا يلبي سوى جزء ضئيل من حاجة البلاد لنقل البضائع، وفقدنا آلاف فرص العمل التي كان يمكن أن يوفرها القطاع لو تمت إعادة تأهيله بالشكل المطلوب”.
ويرى أن العراق بحاجة إلى استراتيجية واضحة لإعادة بناء الأسطول، باعتباره قطاعًا سياديًا واقتصاديًا في آن واحد.
خطوات نحو التحرر
رغم السكون الذي لف الملف لعقود، بدأت وزارة النقل العراقية تحريك المياه الراكدة خلال السنوات الأخيرة. ففي يوليو/تموز 2025، أعلن المتحدث باسم الوزارة، ميثم الصافي، أن العراق سيستقبل خلال أكتوبر المقبل وفداً من المنظمة البحرية الدولية، لمراجعة مدى التزام الهيئة البحرية العراقية بالمعايير الدولية تمهيداً لرفع الحظر.
وقال الصافي في تصريح لصحيفة “الصباح” العراقية إن الوزارة حصلت على شهادات الامتثال البيئي الخاصة بتقليل انبعاثات الغازات الدفيئة، وهو “إنجاز كبير ضمن خطة الوزارة لاستيفاء شروط المنظمة الدولية”، مشيرًا إلى أن “الأسطول العراقي مهيأ فنياً وإدارياً للعودة إلى القائمة البيضاء ورفع العلم العراقي مجددًا”.
وبحسب الصافي، فإن السفن العراقية الأربع الرئيسية (المثنى، البصرة، الحدباء، بغداد) باتت تمتثل للاتفاقيات البيئية البحرية، في خطوة تعزز من مكانة العراق كجهة بحرية فاعلة في المنطقة.
الحافز الخفي
يربط مراقبون هذه الخطوات بنهضة مرتقبة في قطاع النقل، لا سيما مع اقتراب افتتاح ميناء الفاو الكبير، الذي يُعد أحد أكبر المشاريع الاستراتيجية في العراق والمنطقة.
الباحث الاقتصادي أحمد عبد الله يرى أن رفع الحظر سيعني “نقلة نوعية”، مشيراً إلى أن الأسطول العراقي سيكون أحد أعمدة نجاح مشروع الفاو، وطريق التنمية الذي يربط العراق بتركيا وأوروبا.
وفي حديثه لـ”العربي الجديد”، يوضح عبد الله أن “العراق بحاجة لاستثمارات تصل إلى 500 مليون دولار لتحديث أسطوله البحري”، لكنها استثمارات ستعود بأرباح تقدر بأكثر من ملياري دولار سنوياً، من خلال تقليل الاعتماد على الشركات الأجنبية وزيادة عوائد التصدير والاستيراد المباشر.
خسائر مستمرة
تُظهر بيانات وزارة النفط العراقية أن أكثر من 3.3 ملايين برميل يومياً من صادرات العراق تُنقل بحراً، ما يوضح حجم الاعتماد على شركات أجنبية مكلفة.
وفي الوقت ذاته، سجلت دائرة الموانئ العراقية أكثر من تريليون دينار عائدات مالية خلال عام 2024 من عمليات التبادل التجاري، رغم الحظر، وهو ما يعكس الإمكانات الكامنة في حال رفع القيود.
ويرى مراقبون أن عودة العراق إلى المياه الدولية كفاعل بحري معترف به لم تعد ترفًا تقنيًا، بل ضرورة سياسية واقتصادية، خاصة في ظل التنافس الإقليمي على خطوط الملاحة والطاقة.
ويختم الفتلاوي بالقول:“رفع الحظر عن الأسطول العراقي لا يرمم ضرر الماضي فحسب، بل يؤسس لمستقبل جديد يكون فيه العراق حاضراً في الساحة البحرية الدولية، لا مجرد تابع لأساطيل الآخرين”.
