شهدت أوروبا خلال صيف 2025 واحداً من أكثر المواسم قسوة في تاريخها الحديث، إذ تكررت موجات حر خانقة حصدت آلاف الأرواح، وكشفت هشاشة البنية السكانية والصحية في القارة أمام مناخ يتغير بسرعة غير مسبوقة.
أرقام مرعبة
ففي إسبانيا، أعلن نظام المراقبة الصحي عن أكثر من 2,600 وفاة منسوبة للحر حتى منتصف أغسطس، بينما أكدت السلطات 23 وفاة فقط بضربة شمس بشكل مباشر، ما يعكس حجم الوفيات غير المباشرة الناتجة عن تفاقم أمراض القلب والرئة والكلى بفعل الحرارة.
فرنسا من جانبها سجّلت نحو 480 وفاة زائدة خلال موجة يونيو–يوليو، كان أكثر من أربعة أخماسها بين من تجاوزوا الخامسة والسبعين.
وفي البرتغال، أدت موجة قصيرة في أواخر يوليو إلى وفاة 264 شخصاً خلال أيام معدودة، فيما قدّر معهد روبرت كوخ في ألمانيا نحو 1,600 وفاة مرتبطة بالحر حتى الأسبوع الثاني والثلاثين من العام.
حتى بريطانيا التي لم تعرف تاريخياً مثل هذه الموجات، سجّلت وفق تقديرات بحثية مستقلة نحو 900 وفاة إضافية في موجتين قصيرتين.
غابة خرسانية وجزر حرارية
هذه الأرقام لا تأتي بمعزل عن تفسير علمي واضح: الحرارة المفرطة تربك أنظمة الجسد، إذ يتعطل التعرّق كآلية للتبريد فيرتفع خطر الجفاف وتزداد لزوجة الدم، ما يضاعف احتمالات الجلطات والسكتات.
الليالي الحارة تزيد الأزمة تعقيداً، لأنها تحرم الجسد من الراحة الضرورية للتعافي. المدن الأوروبية بدورها ساهمت في تفاقم المأساة، إذ حوّلت الخرسانة والإسفلت أحياء كاملة إلى جزر حرارية تحبس الحرارة وتضاعف آثارها.
وفي ظل انخفاض انتشار المكيّفات في المنازل، خصوصاً في مساكن قديمة صُممت لحفظ الدفء لا تبديده، وجد ملايين السكان أنفسهم بلا وسيلة حماية فعالة في ذروة الخطر.
العلماء يشيرون بوضوح إلى أن تغيّر المناخ لم يعد خلفية بعيدة بل عامل مباشر في هذه الكارثة. دراسة دولية غطّت 12 مدينة أوروبية قدّرت أن ثلثي الوفيات في موجة يونيو لم تكن لتحدث لولا الاحترار العالمي الذي زاد من شدّة الموجة وطولها. ومع شيخوخة المجتمعات الأوروبية وتزايد الأمراض المزمنة، يصبح العبء أكبر عاماً بعد عام.
ومع ذلك، أظهرت تجارب محلية أن الخطر قابل للتقليص: ففي إيطاليا مثلاً أسهمت خطط الإنذار المبكر والتواصل المباشر مع الفئات الهشّة في خفض الوفيات بنحو 30%.
خلاصة المشهد أن الأوروبيين لا يموتون فقط لأن الشمس صارت أقسى، بل لأن أجسادهم أكبر سناً، ومدنهم أقل استعداداً، ومنازلهم غير مجهّزة، ومناخهم يتغير بسرعة لم يألفوها. الصيف لم يعد موسماً سياحياً طويلاً كما اعتادوا، بل صار فصلاً قاتلاً يتكرر كل عام، ويذكّر القارة بأن الحرّ لم يعد مجرّد طقس عابر، بل تهديد وجودي يتطلّب استجابة عاجلة.