تتجه الأنظار في العراق إلى أسواق النفط العالمية، التي تشهد موجة انخفاضات متتالية في الأسعار، وسط تحذيرات من مؤسسات دولية وخبراء اقتصاديين من تداعيات هذا الانخفاض على المالية العامة للدولة وقدرتها على الإيفاء بالتزاماتها.
وحذّرت شركة S&P Global Commodity Insights الأميركية المعنية بالطاقة من أنّ ضعف توقعات أسعار النفط يزيد المخاطر المالية على الدول المنتِجة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مرجّحةً ارتفاع احتمالات تأجيل أو إلغاء مشاريع البنية التحتية والإنشاءات الكبرى.
وذكرت الشركة في تقريرها أنّ انخفاض الأسعار قد يُجبر الدول الأضعف ماليًّا والأقل استقرارًا، مثل العراق، على تقليص الإنفاق العام، بما قد يرفع من مخاطر الصراعات ويهدّد الاستقرار السياسي.
وتتقاطع هذه الخلاصة مع تحذيرات خبراء اقتصاديين عراقيين ودوليين من أنّ طول أمد الأسعار المنخفضة سيضع المالية العامة في العراق أمام اختبار قاسٍ. فالعراق يعتمد على الإيرادات النفطية بدرجة مرتفعة لتغطية نفقاته، وأي فجوة طويلة بين سعر البرميل الفعلي وبين سعر “التعادل” في الموازنة ستترجم، بحسب التقديرات المطروحة، إلى عجز متزايد وضغوط مباشرة على بنود الإنفاق.
تحذير ليس جديدا
الخبير الاقتصادي من البصرة بسّام رعد يقول لمنصّة “إيشان” إنّ تقرير S&P “ليس جديدًا” في مضمونه، إذ سبقه تقرير لصندوق النقد الدولي حذّر من مخاطر مستقبلية مرتبطة بنمو النفقات التشغيلية في العراق. ويؤكد رعد أنّ البلاد “تحتاج إلى سعر برميل يبلغ 90 دولارًا لتحقيق نقطة التعادل بين النفقات والإيرادات”، بينما “الأسعار حاليًا بحدود 65 أو 68 دولارًا”، ما يعني، برأيه، أنّ “الأسعار عند هذا المستوى ستؤدي إلى نمو عجز الموازنة”. ويضيف أنّ الدين العام، وبالذات الدين الداخلي، “وصل إلى مستويات قياسية خلال الفترة الأخيرة إذ تجاوز التسعين تريليون دينار عراقي”، وهو ما يعدّه من العوامل الضاغطة على المالية العامة.
وبحسب رعد، فإنّ بقاء أسعار النفط دون مستوى التعادل في الموازنة “يعني أن الإنفاق سيقتصر على الإنفاق التشغيلي، وستتعطّل المشاريع الاستثمارية مستقبلًا”، وهذا “يحمل مخاطر كبيرة لأن تعطل المشاريع الاستثمارية قد يضر بالمواطن البسيط”.
ويرى أنّ “البحث عن حلول يتطلّب وقتًا ومعالجات تأخذ فترة زمنية طويلة قد تكون في الوقت الحالي غير ممكنة”، ما يرجّح – وفق تقديره – أن تكون المالية العامة “مضطرة إلى ترشيد الإنفاق العام بشكل كبير وإعادة النظر في الموازنة، وربما نشهد توقّفًا في العديد من المشاريع”.
عجزٌ بـ64 تريليون دينار
من جانبه، يلفت الدكتور صادق الركابي، مدير المركز العالمي للدراسات التنموية في المملكة المتحدة، إلى أنّ “الفائض في المعروض في السوق النفطية يوقع العراق في إشكال”.
ويشرح لمنصّة “إيشان” أنّ على العراق “أن يوازن بين الحفاظ على سياسات أوبك، التي تحاول ألا تخسر المنتجين، وفي الوقت نفسه ألا تخسر الحصص السوقية لدول أوبك، ومن ثم تعمل على التوازن”.
ويرى الركابي أنّ “أي زيادة في المعروض النفطي قد تؤثر على موازنة العراق المالية التي يعتمد بها على النفط، وأي فائض في المعروض سيؤثر على إيرادات العراق المالية”، محذّرًا من أنّ العجز “قد يرتفع إلى أكثر من 64 تريليون دينار”، وهو “رقم كبير بالنسبة إلى موازنة العراق التي تبلغ نحو 150 تريليونًا”. ويضيف أنّ ذلك “قد يؤثر على قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها، سواء في المشاريع الاستثمارية، أو تأخّر دفع الرواتب”، وهو ما قد ينعكس على “استقرار العراق وسمعته أمام المستثمرين”.
ويشير الركابي إلى أنّ “المطلوب من العراق أن يعمل على تعظيم الإيرادات غير النفطية”، لكنه يقرّ بأنّ “التحوّل إلى تعظيم الإيرادات غير النفطية يتطلّب تمويلًا، وهنا تكمن الصعوبة”، ما يستدعي، وفق طرحه، “محاولات حثيثة تمكّن العراق من تعظيم إيراداته بعيدًا عن النفط”.
عجزٌ وشيك
وفي قراءة ثالثة، يذكر المستشار الاقتصادي السابق لرئاسة مجلس النواب، الدكتور محمد الفخري، لمنصّة “إيشان” أنّ “سعر برميل خام برنت يبلغ حاليًا 58 دولارًا”، مع توقّعات “بانخفاض أسعار النفط أكثر في بداية العام المقبل” بسبب “زيادة المعروض جراء قرارات أوبك بلاس وضعف الطلب العالمي”. ويحذّر الفخري من “عجز وشيك في موازنة العراق إذا استمرت الأسعار في هذا المستوى”، لاسيّما وأنّ الموازنة “تعتمد بنسبة تفوق التسعين بالمئة على الإيرادات النفطية”.
ويلخّص وضع العراق بالقول إنّه “في موقف لا يُحسَد عليه”، إذ يتطلّب الأمر “الالتزام باتفاقيات أوبك بلاس الهادفة إلى ضبط الإنتاج”، يقابله “حاجة ملحّة لتحقيق الإيرادات”.
رقم التوازن بعيد
على صعيد الأرقام المرجعية، تكشف وكالة S&P Global Commodity Insights أنّ العراق “بحاجة إلى سعر نفط يبلغ 92 دولارًا للبرميل ليحقّق التوازن في موازنته للعام الحالي”، بينما تُقدِّر – وفق تقريرها حول أسعار النفط التي تحتاجها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لمعادلة الموازنات الوطنية لعام 2025 – أنّ “العراق يحتاج إلى معدل سعر 95 دولارًا للبرميل لمعادلة موازنته الوطنية”. وفي المقابل، تشير الوكالة إلى أنّ “العراق يبيع خامه الثقيل بـ66 دولارًا والخام المتوسط بسعر 68 دولارًا”.
هذه الفجوات بين سعر البيع الفعلي وسعر التوازن المطلوب، وفق ما تورد S&P وما يعرضه الخبراء، تضع صانع القرار العراقي أمام مسارات محدودة. فاستمرار الأسعار دون مستويات التعادل، كما يقدّر بسّام رعد، يعني تلقائيًّا ترجيح كفّة الإنفاق التشغيلي على حساب الاستثماري، مع ما يحمله ذلك من انعكاسات مباشرة على وتيرة تنفيذ مشاريع البنية التحتية والإنشاءات. ومع تحذير الركابي من اتّساع العجز إلى مستويات تتجاوز 64 تريليون دينار قياسًا بموازنة تقارب 150 تريليونًا، تتأكد حساسية أي تأخير في معالجة الاختلال بين الإيرادات والنفقات، خصوصًا في ظل اعتماد يفوق 90% على العوائد النفطية، كما يذكّر الفخري.
