في سابقة أثارت عاصفة من النقاش داخل أروقة صناعة السينما العالمية، ظهرت على الساحة الفنية شخصية جديدة تحمل اسم “تيلي نوروود”. للوهلة الأولى قد يظن المتابع أنها ممثلة صاعدة شابة، إلا أن الأمر مختلف تماماً؛ فهي ليست إنسانة من لحم ودم، وإنما شخصية افتراضية أنشئت بالكامل بواسطة تقنيات الذكاء الاصطناعي.
منذ أن قدمتها شركة بريطانية متخصصة في إنتاج المحتوى الرقمي، وجدت “نوروود” نفسها في قلب عاصفة من الجدل الأخلاقي والفني، إذ انقسمت هوليوود بين من يرى في هذه الخطوة ثورة إبداعية، ومن يعتبرها تهديداً مباشراً لمستقبل الممثلين الحقيقيين.
الشخصية الافتراضية خرجت إلى النور في مهرجان زيورخ السينمائي، حيث جرى عرض فيلم قصير بعنوان “AI Commissioner” أدت فيه تيلي الدور الرئيس. الفيلم لم يكن سوى منصة للتعريف بالممثلة الجديدة، لكنه كان كافياً لإشعال النقاش حول حدود التكنولوجيا وموقع الإنسان داخلها. الشركة المنتجة، التي تُعرف باسم Particle6 عبر وحدتها “Xicoia”، دافعت عن مشروعها بالقول إن العالم يعيش ثورة شبيهة بظهور الرسوم المتحركة أو المؤثرات البصرية، وإن الهدف ليس استبدال الممثلين البشريين بل ابتكار شكل جديد من الفن.
إلا أن هذا التبرير لم يقنع كثيرين في هوليوود. نقابة الممثلين الأميركيين SAG-AFTRA سارعت إلى إصدار بيان شديد اللهجة، وصفت فيه تيلي نوروود بأنها “ليست ممثلة حقيقية بل كيان مُولَّد برمجياً”، وحذرت من أن عملية تدريبها جرت على أعمال لممثلين حقيقيين من دون إذن أو تعويض، وهو ما اعتبرته انتهاكاً لحقوق الملكية الفكرية والجهد الإبداعي البشري. النقابة شددت على أن “الإبداع يجب أن يبقى إنسانياً”، وأكدت أن العقود الموقعة مع المنتجين تنص بوضوح على ضرورة إبلاغها والتفاوض معها قبل استخدام أي أداء اصطناعي يحاكي الممثلين.
ردود الفعل لم تتوقف عند حدود المؤسسات النقابية. الممثلة البريطانية الشهيرة إيملي بلانت أعربت عن قلقها، قائلة إن هذا النوع من التجارب “مخيف” ويهدد العلاقة العاطفية التي تربط الجمهور بالفنان. أما الممثلة والمذيعة الأميركية ووبي غولدبرغ فقد ذهبت أبعد من ذلك، إذ رأت أن المشكلة تكمن في كون الشخصية الافتراضية تُبنى عبر مزيج من سمات عشرات الممثلين، وهو ما يمنحها أفضلية غير عادلة ويجعلها أقرب إلى “منتج صناعي” لا يمكن منافسته.
ومع ذلك، يرى البعض في تيلي نوروود فرصة لإعادة تعريف مفهوم التمثيل. فالتكنولوجيا الرقمية، بحسب مؤسسي المشروع، تتيح إنتاج أعمال منخفضة الكلفة يمكن أن تمنح فرصة لكتّاب ومخرجين مستقلين لا يملكون ميزانيات للتعامل مع نجوم الصف الأول. الشركة المنتجة تؤكد أن الجمهور يهتم بالقصة أكثر من هوية الممثل، وأن الشخصية الافتراضية قادرة على إيصال مشاعر وتأثيرات لا تقل إقناعاً عن أداء الممثل البشري، إذا ما استُخدمت بالأسلوب الصحيح.
الجدل الذي أثارته “نوروود” يتجاوز حدود الفن إلى أسئلة قانونية واقتصادية. فهل يحق لشركة خاصة أن تنتج شخصية تحمل ملامح مركبة من مئات الممثلين دون إذنهم؟ وهل يمكن اعتبار ذلك نوعاً من السرقة الفنية؟ من جهة أخرى، هناك مخاوف من فقدان آلاف الممثلين والكوادر المساعدة لوظائفهم في حال تحولت الشخصيات الافتراضية إلى بديل اقتصادي أكثر جدوى لشركات الإنتاج. بعض المحللين شبّهوا الوضع بما حدث في عالم الموسيقى عندما ظهرت البرمجيات القادرة على توليد أصوات تحاكي المغنين بدقة.
اللافت أن هذه التجربة تأتي بعد عام واحد فقط من إضراب طويل خاضته نقابة الممثلين والكتّاب في هوليوود احتجاجاً على استخدام الذكاء الاصطناعي. الاتفاق الذي أنهى الإضراب تضمّن بالفعل بنوداً تقيد استخدام هذه التكنولوجيا وتُلزم المنتجين بالتفاوض قبل اعتمادها. لكن ظهور تيلي نوروود كشف أن المعركة لم تنته بعد، وأن الطريق لا يزال مفتوحاً أمام صدامات جديدة بين الإبداع البشري والآلات.
ورغم كل هذا الجدل، فإن الممثلة الافتراضية حظيت بمتابعة واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يدير فريقها حسابات تنشر صوراً ومقاطع مصممة لتبدو واقعية. آلاف المتابعين تفاعلوا مع محتواها، بعضهم بفضول وانبهار، وآخرون بسخرية أو اعتراض. هذا التباين يعكس الانقسام الأعمق في المجتمع الفني حول ما إذا كانت هذه مجرد صيحة عابرة أم بداية حقبة جديدة.
في النهاية، قد لا يكون السؤال الأهم هو ما إذا كانت تيلي نوروود قادرة على إقناع الجمهور بدورها كممثلة، بل ما إذا كانت هوليوود مستعدة للتعامل مع واقع تتداخل فيه الخوارزميات مع المشاعر الإنسانية. فبينما ترى النقابات والفنانون أن الإبداع لا يمكن فصله عن التجربة البشرية، تؤكد الشركات الناشئة أن التكنولوجيا ليست عدواً بل وسيلة لفتح آفاق جديدة.
وبين هذين الموقفين، تقف “تيلي نوروود” اليوم كرمز لصراع أوسع بين الإنسان والآلة في عالم الفن. قد تكون مجرد تجربة أولى سرعان ما تخبو، وقد تكون أيضاً الشرارة التي تغيّر صناعة السينما إلى الأبد. ما هو مؤكد أن اسمها سيظل يتردد في أروقة هوليوود، ليس بسبب أداءٍ استثنائي على الشاشة، بل لأنها ببساطة جسّدت الخوف والأمل في آن واحد من مستقبل يكتبه الذكاء الاصطناعي.