في شتاء كل عام، حين تبدأ درجات الحرارة بالانخفاض في شرق المتوسط وغرب آسيا، يصل طائر الفلامنغو الكبير إلى جنوب العراق. يظهر أولاً في أسراب صغيرة، ثم تتكاثر أعداده فوق الأهوار والبحيرات الضحلة، في مشهد بات مألوفاً لسكان ميسان وذي قار والبصرة، لكنه في الحقيقة نهاية رحلة طويلة بدأت آلاف الكيلومترات بعيداً.

هذا الطائر، الذي يتكاثر في بحيرات مالحة في إسبانيا وجنوب فرنسا وشمال أفريقيا، لا يسلك طريقاً واحداً إلى العراق. تحركاته، كما توثقها دراسات التتبع بالأقمار الصناعية، تمر عبر شبكة واسعة من المحطات: من شرق المتوسط إلى تركيا أو بلاد الشام، ثم إلى الأراضي الرطبة في إيران، قبل أن يعبر إلى العراق بحثاً عن مياه ضحلة وغذاء وفير في أشهر الشتاء. بعض هذه الرحلات تمتد عبر الخليج، وأخرى تنعطف شمالاً، تبعاً لتغير منسوب المياه والملوحة في كل موسم.
في العراق، يجد الفلامنغو ما يحتاجه للبقاء خلال الشتاء: طحالب وقشريات مجهرية في الأهوار، ومساحات مفتوحة تسمح له بالتغذية والتجمع. ولهذا تصنفه قواعد بيانات الطيور الدولية بأنه “زائر شتوي وعابر” في البلاد، وليس نوعاً مستوطناً. ذروة وجوده عادة ما تكون بين كانون الأول وشباط، قبل أن يبدأ في آذار بالعودة شمالاً نحو محطات إقليمية ثم مناطق التكاثر في الربيع.
لكن هذه المحطة الشتوية لم تعد آمنة كما كانت. خلال الأسابيع الماضية، انتشرت على منصات التواصل الاجتماعي العراقية مقاطع تُظهر صيد طيور الفلامنغو في مناطق من الأهوار، وبيعها في الأسواق المحلية. المشاهد أثارت موجة غضب واسعة، إذ اعتبرها كثيرون اعتداءً على نوع مهاجر محمي دولياً وعلى ما تبقى من التنوع البيئي في البلاد.

في التعليقات، عبّر مستخدمون عن صدمتهم من رؤية طيور “تقطع آلاف الكيلومترات لتصل إلى العراق ثم تُقتل خلال أيام”. آخرون طالبوا بتدخل عاجل من السلطات المحلية ووزارة البيئة، وتطبيق القوانين التي تحظر صيد الطيور المهاجرة.
وفي تعليق تكرر في منصات التواصل: “العراق يستحق طيور أبابيل، لا فلامنغو” والأبابيل هي الطيور التي أرسلها الله في سورة الفيل لإهلاك جيش أبرهة الذي أراد هدم الكعبة.
وذهب بعضهم إلى التحذير من أن استمرار هذه الممارسات سيؤدي إلى اختفاء الفلامنغو من الأهوار، كما اختفت أنواع أخرى في السنوات الماضية.
المفارقة أن الطائر الذي يعتمد في رحلته على دقة الطبيعة—من مواسم الأمطار إلى ملوحة المياه—يواجه في العراق خطراً مختلفاً تماماً: الإنسان. فالهجرة التي صُممت بيولوجياً لتأمين بقائه في الشتاء، تنتهي أحياناً عند فوهة بندقية أو شبكة صيد.
وبينما تستعد أسراب الفلامنغو في الأسابيع المقبلة للعودة إلى شمال المتوسط مع أول دفء للربيع، يبقى السؤال مطروحاً: هل سيجد هذا الطائر في شتاءات قادمة أهواراً آمنة في العراق، أم ستُرسم خريطة هجرته من جديد، بعيداً عن بلد لم يعد يضمن له سوى محطة قصيرة وخطرة؟

