فضائل الزمن: سرمد يتقدم.. خميس يتراجع
علي وجيه
مساحة التحليل السياسيّ، بالمُجمل، تتعامل مع ما هو كائن، لا بما هو مُتخيّل، وللسياسيّ العراقيّ خميس الخنجر وجود ما، عِمادُهُ الكتلة الماليّة، والعلاقة الجيّدة أخوانياً مع أنقرة والدوحة، لكنّ اختلاف الخنجر عن غيره، وهو الذي بدأ بالتصدّي بشكلٍ واضح مع الاحتجاجات السنّية عام ٢٠١٣، هو أنّهُ، وبمرحلة ما بعد التحرير، لم يختلف خطابُهُ الراديكاليّ كثيراً عمّا كان يطلّ به من شاشات التلفاز، أو أدوات إعلامه الرديفة، رغم شراكته السياسيّة – الماليّة الواضحة مع البيت الشيعيّ الكلاسيكيّ، الذي يضم راديكاليين شيعة بمقابله.
طيلة هذه الفترة، لم تكن سرديّة الخنجر السياسية لتستند إلاّ على شيطنة الشريك الشيعيّ، حقّاً أحياناً وباطلاً أحايينَ أخرى، فضلاً عن استناده على خطاب بمضمرٍ طائفيّ هويّاتيّ سنّي، بعلامات واضحة تواجه السرديّة الشيعيّة التي حملها خصومُهُ، فتراكيب مثل “الغوغاء” التي ترتبطُ دِلالياً بالمصطلح الذي أطلقه إعلام صدّام حسين على أبناء انتفاضة ١٩٩١، و”أحفاد الصحابة”، في إشارة إلى الفجوة المذهبية الواضحة بين السنّة والشيعة، فيما تولّت أذرعه، من مرشّحين وإعلاميين ومُدوّنين الهجوم على ما تبقّى من عناصر السلطة، التي يشكّل الشيعة السياسيون غالبيّتها، مع غضّ النظر عن الجانب الكرديّ.
هذا هو الخنجر، وهذه منظومته، لكن: حين وصلَ الأمر إلى مفترق طرق، من استبعادات ودعاوى قضائية وردود، رأى أن الإرث السياسيّ، الماليّ، العلاقاتيّ، أغلى من أن يُضيَّع بالتصدي المباشر الحاد على ما يبدو، خصوصاً مع عدد مقاعده المتواضع قياساً بخصومه، حين نال – رغم كلّ الإنفاق الهائل ورفع الخطاب السياسيّ – تسعة مقاعد فحسب.
ومع مصادقة المفوضية العليا المستقلة للانتخابات على نجل خميس، سرمد الخنجر، رئيساً لتحالف “السيادة – تشريع”، يتصدّى الابن بشكلٍ مباشر، بعد أن حضر اسمه أكثر من مرّة، مقرّباً من رئيس الوزراء الحالي محمّد شياع السودانيّ مرةً، ومشرفاً على الأذرع الإعلاميّة لأبيه، فضلاً عن الاستثمارات والمشاريع الأخرى.
ولا تختلفُ هذه الظاهرة عمّا يحدثُ في البيوت الثلاثة: الكرديّة، الشيعية، السنّية، من توريثٍ وامتدادٍ أسريّ، انطلاقاً من المنظومة القبليّة والثقة التي تصنعُها صِلةُ الدم، لكنَّ ما يُمكن الانتباه له في هذه المقاربة، هي فضيلة الزمن، والمواليد التي تختلفُ، بين جيل الآباء والأبناء.
لا أحد يريدُ من الخنجر الأب، أو الابن، أن يتحوّلا إلى شيعة، أو “سنّة تابعين”، بقدر الحفاظ على الهويّة الفرعيّة، دون تطرّف، وهذه المساحة عملَ بها كثيرون، ونجحوا، وأبرزهم رئيس حزب “تقدّم” محمّد الحلبوسيّ.
يمتلكُ سرمد الخنجر حالياً صفتين لا بأسَ بهما للبدء من جديد، وهي: عدم تصدّيه إعلامياً، فليس له خطابٌ يُمكن أن يُفهم من خلاله سرديّة دينية أو تطرّفاً، والصفة الثانية هي عمره الذي لم يتجاوز الـ ٣٥ بحسب ما وصلتُ إليه، وهذا الأمر يعني أنه لم يُطبخ كما طُبِخَ جيلُ أبيه، وهذه من فضائل الزمن، أن يكون الأبناء نسخةً تختلفُ، أو بالأقل، مخفّفةً عن الآباء.
وبكل تأكيد لا يُنتظر من سرمد الخنجر أن يكون نسخةً ليبراليّة علمانيّة، ولا حتّى شيعية، لكنَّ مغادرة خطاب “الغوغاء” و”اللفو” و”أحفاد الصحابة” من جهة، مع إمكانية العمل السياسيّ المشترك في مناطق الشيعة والسنّة [انظر ترشيح “الصادقون” – عصـ.ائب أهل الحق لمرشّحة في تكريت، وترشيح “تقدّم” لعضوين في بابل والبصرة]، من الممكن أن تُخفَّف هذه النسخة.
سرمدُ ما زال صامتاً، لم نسمعه، لم يغرّد في أكس، حتى الانطباعات المنقولة عنه شحيحة، وهذا يعني أن الدفتر الفارغ الذي لم يُكتب به حتى الآن يُمكن أن يُكتب فيه ما هو إيجابيّ، مُشترك، ينطلقُ من الحوار، لا القطيعة، لا مثل ما فعل أبوه وجيله.
يجيد السنّي الشاب الحوار مع الشيعيّ الشاب أكثر حتى من حواره مع سنّي كهل، حيث تبتعدُ هذه الأجيال عمّا يثير الاحتراب والفجوات، من حكم صدام حسين وصولاً للحرب الأهلية وليس انتهاءً بالحرب على د!عش، وبكل الأحوال، هذه كلها فرضيّة لأن الرجل لم يتكلّم بعد، فلربّما أعدَّ خميس نسخةً أكثر تطرّفاً منه، ستبرّر وجود متطرّفين شيعة بالمقابل، يتحاربون في الفضاء العام، ويجلسون في العقود الاستثمارية المشتركة، ولا ينعكسُ هذا إلاّ على الشارع.
هذه فرصة جديدة لمَن يمثّلهم آل الخنجر، أو التوجّه الأخواني – العروبيّ، ليقدّم نسخة مخففة، كي لا يتحوّلوا، مع التقارب السنّي – الشيعيّ، إلى منبوذين لهذه الدرجة وبلا تمثيل سياسيّ، في وقتٍ ينتظر الجميع “أحفاد الدولة” لا “أحفاد الصحابة”.
وبالعموم، الرجلُ صامتٌ حتى الآن، نأمل أن يتكلّم خيراً، وأن يكنسَ شيئاً من الزجاج الذي كسَّرَهُ أبوه منذ عقد ونيّف، لا أن يكون نسخةَ آيفون جديدة عن النسخة القديمة، بشاحنٍ يختلف!
