عندما كتب الشاعر العراقي أحمد مطر، قصيدته، أو كما يسمّيها “لافتة”، (الجهات الأربع اليوم جنوب) ممتدحاً حزب الله وجنوب لبنان بعد حرب تموز 2006، كان قد وضع تشبيهاً يحتاجه اللبنانيين والعرب اليوم، في شحذ هممهم لمواجهة الكيان الصهيوني، فما أجمل ما وصفه حين قال:
لن تتيه الشمسُ، بعدَ اليومِ، في ليلِ ضُحاها
سترى في ضوءِ عينيكَ ضياها!
وستمشي بأمانٍ
وسيمشي مُطمئناً بين جنْبَيها الأمانْ!
فعلى آثارِ خُطواتِك تمشي،
أينما يمَّمتَ.. أقدامُ الدُّروبْ!
وعلى جبهتكَ النورُ مقيمٌ
والجهاتُ الأربع اليوم: جنوبْ
يا جنوبيُّ..
فمِنْ أينَ سيأتيها الغروبْ؟!
وهذا كان إعلان لأحمد مطر، عن انتصار حزب الله في تلك المعركة، التي قادها الشهيد نصر الله، لكنه كان أحد لساناً حين انتقد التطبيع من بعض الدول العربية مع الكيان الصهيوني وراح يعتذر من القدس هاتفاً:
يا قدس معذرة ومثلي ليس يعتذر
ما لي يد في ما جري فالأمر ما أمروا
وأنا ضعيف ليس لي أثر
عار علي السمع والبصر
وأنا بسيف الحرف أنتحر
وأنا اللهيب.. وقادتي المطر
فمتي سأستعر؟!
وعند إعلان الإمارات والبحرين التطبيع رسميا مع الاحتلال الإسرائيلي، وتوارد الأنباء عن نية بلدان عربية اللحاق بهما، أخذت قصائد الشاعر العراقي الساخر أحمد مطر، تملأ وسائل التواصل الاجتماعي تعبيرا عن حالة الغضب التي تنتاب الشعوب العربية، خاصة قصيدة اعتذاره من القدس حيث يكمل مطر:
الغدر منهم خائف حذر
والمكر يشكو الضعف إن مكروا
فالحرب أغنية يجن بلحنها الوتر
والسلم مختصر
ساق علي ساق
وأقداح يعرش فوقها الخدر
وموائد من حولها بقر
ويكون مؤتمر
قصائد الشاعر العراقي التي كتبها قبل عقود من الزمن، ما زالت تشعل جذوة الثورة في العالم العربي، لا سيما أنها تتجدد مع تدهور الواقع المرير، وتحديدا فيما يتعلق بتنكر الأنظمة العربية لقضية فلسطين المركزية، وتسلطهم وتجبرهم على الشعوب.
لافتات مطر
بعد انتقاله إلى الكويت، عمل محررا ثقافيا في صحيفة “القبس”، وأستاذا للصفوف الابتدائية في مدرسة خاصة وهو في منتصف العشرينيات من عمره، ومضى يُدوّن قصائده، وسرعان ما أخذت طريقها إلى النشر، فكانت “القبس” الثغرة التي أخرج منها رأسه.
من خلال فن غير مسبوق في الوطن العربي، كتب مطر “لافتاته” التي انتقد فيها الديكتاتوريات التي عانت منها الشعوب العربية، ووثق فيها منعطفات الوطن العربي ليصير بعد فترة شاعر التمرد والثورة الذي ترفع كلماته على لافتات النضال.
وفي ظاهرة جديدة على الصحافة العربية حينها، وضعت “لافتات” مطر بالصفحة الأولى من صحيفة “القبس”، وصارت أشبه بافتتاحية الصحيفة التي يتحدث عنها القراء وقد يسألون بعضهم، “هل قرأت لافتات أحمد مطر هذا اليوم؟”.
أول لافتة نشرها أحمد مطر في القبس كانت في أغسطس/ آب عام 1980 بعنوان “عباس وراء المتراس يقظ منتبه حساس”، والتي سخر فيها من حكام العرب بطريقة لاذعة.
كانت لافتاته، عبارة عن قصائد قصيرة موجعة، لم تحتج إلى كلمات كثيرة ولا جمل طويلة فهي حكاية بين السخرية والكوميديا السوداء، لافتات لم يسلم منها موقف سياسي ولا حاكم، كونها تسرد هموم الوطن العربي.
من قصائده التي يتداولها الكتاب والناشطون بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي في الوقت الراهن، “حظيرة البقر”، التي سخر فيها من اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، وتشكلت إثر ما كتبه مطر حالة غضب تجاه معظم حكام الدول العربية.
تنبأ الشاعر العراقي في قصيدته التي كتبها قبل أكثر من 40 عاما بهرولة الأنظمة العربية تباعا نحو التطبيع مع إسرائيل، حيث وصفهم بـ”حظيرة البقر”.
من منفى لمنفى
في عام 1986 قررت الكويت نفي الشاعر أحمد مطر مع صديقه ورفيق المنفى رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي حيث وجد كل منهما في الآخر توافقا نفسيا واضحا، فكثيرا ما كانا يتوافقان في التعبير عن قضية واحدة دون اتفاق مسبق.
أثارت قصائد مطر حفيظة مختلف الأنظمة العربية، تماما مثلما أثارتها ريشة ناجي العلي، الأمر الذي أدى إلى صدور قرار بنفيهما معا من الكويت، حيث ترافق الاثنان من منفى إلى منفى.
في لندن فقد أحمد مطر صاحبه ناجي العلي الذي اغتِيل على يد الموساد بمسدس كاتم للصوت، ما كان يمثل صدمة وفاجعة أثقلت كاهل الشاعر العراقي وكانت سببا في عزلته الطويلة.
من لندن سافر أحمد مطر إلى تونس ليجري فيها اتصالات مع كتابها وأدبائها، ثم عاد سريعا إلى لندن، ليستقر نهائيا بعيدا عن وطنه، وسرعان ما ساءت علاقته مع “القبس”، فصارت صحيفة “الراية” القطرية متنفسه على العالم، وعن هذا الموضوع يكتب أحمد مطر لافتة بعنوان (حيثيات الاستقالة) جاء فيها:
أيتها الصحيفة
الصدق عندي ثورة.
وكذبتي
إذا كذبت مرة
ليست سوي قذيفة!
فلتأكلي ما شئت، لكني أنا
مهما استبد الجوع بي
أرفض أكل الجيفة.
أيتها الصحيفة
تمسحي بذلة
وانطرحي برهبة
وانبطحي بخيفة.
أما أنا.. فهذه رجلي بأم هذه الوظيفة!
عزلة طويلة
قرر الشاعر الدخول في عزلة طويلة، حيث نأى بنفسه بعيدا عما يجري في العالم منذ أكثر من 30 عاما، وكان آخر ظهور إعلامي لقصائده في عام 2014 بصحيفة القبس كانت لافتة بعنوان “لم يصل”، وأخرى بعنوان “فرعون ذو الأوتاد”، ومن حينها لم يخرج مطر من عزلته.
الكاتب السعودي فائق منيف التقى مطر عام 2014، وقال خلال مقابلة تلفزيونية في ديسمبر/ كانون الأول 2017: إنه سأل مطر عن أسباب العزلة، فأجابه بأنها بسبب الخيبات في الوطن العربي الذي ظل يدافع عن حريته والعدالة والمساواة فيه، فوجد أن الحال العربي من سيئ إلى أسوأ.
وأشار إلى أن من الأمور الأخرى التي أدت إلى عزلته هي اغتيال صديقه المقرب رسام الكاريكاتير ناجي العلي على يد الموساد، قائلا: “أثقلت بعد استشهاده”.
منيف أكد، أن أحمد مطر رغم عزلته لكنه مطلع على الأحداث والتطورات ويؤلمه بعض الانتكاسات في الربيع العربي وغيرها من التطورات في العراق، فيكتب بعض الأشعار لكنه لا ينشرها.
ولفت إلى أن “مطر يمتنع عن النشر لأنه ما زالت حرية التعبير ليست قوية بالوطن العربي، حتى بعض قصائده تخاف الصحف من نشرها لما فيها من سخرية لاذعة تميز بها شعر أحمد مطر على مدار السنوات”.
ملك الشعراء
كثير من الثوار في العالم العربي والناقمون على الأنظمة يجدون مبتغاهم في لافتات أحمد مطر، حتى أن منهم من يلقبه بـ”ملك الشعراء” ويقولون: إن كان أحمد شوقي هو أمير الشعراء، فأحمد مطر هو ملكهم.
وحسب تقارير، فإن لافتات أحمد مطر منعت في 20 دولة عربية، ولم يسمح لها سوى في بلدين عربيين هما مصر والكويت، فيما كانت تخضع لافتاته للرقابة مرتين، الأولى من الرقابة التابعة لوزارة الإعلام الكويتية (تخضع لها جميع الصحف) والمرة الثانية من إدارة تحرير الصحيفة.
وكان يصر أحمد مطر في صحيفة “القبس” على نشر “اللافتة” بالفاصلة والنقطة التي يضعها، ومن غير ذلك تحذف كاملة، حسبما أفاد حمزة عليان مدير مركز المعلومات والدراسات في “القبس” خلال مقابلة تلفزيونية في ديسمبر/ كانون الأول 2017.
لأحمد مطر ديوان كبير طبعه الشاعر في لندن، يضم المجموعة الكاملة 7 دواوين بعنوان لافتات (لافتات 1 إلى لافتات 7)، وتضم بعض الدواوين الشعرية الأخرى، مثل: (إني المشنوق أعلاه، ديوان الساعة)، فضلا عن بعض القصائد المتفرقة التي لم يجمعها عنوان محدد، مثل: (ما أصعب الكلام، العشاء الأخير، لصاحب الجلالة، إبليس الأول)، بالإضافة إلى قصائد أخرى نشرها وما زال ينشرها الشاعر على صفحات جريدة “الراية” القطرية.
تُعد السخرية في الشعر طريقة من طرائق التعبير عن الشيء، يستخدم فيها الشاعر ألفاظا خاصة تشير هذه الألفاظ إلى عكس ما يقصد الشاعر تماما، وهي في هذا تشبه التورية، وغالبا ما يكون القصد من السخرية هو النقد وإظهار العيوب وتعرية السلبيات.
برع أحمد مطر في هذا الأسلوب، فكان شاعرا ساخرا متهكما، دفعت السخرية الناس إلى متابعته وقراءة أشعاره التي ينقد فيها السلطة ويسلط الأضواء على الفجوة الكبيرة بين الحكام وشعوبهم، فكان يفضح آليات السياسة وإستراتيجياتها بأسلوب ساخر لاذع، مما أثار غضب السلطات العربية عليه وإعجاب الشعب العربي كله.