لم تمر ليلة الخميس على بغداد طبيعية، بل شهدت عودة رائحة الكبريت، التي اجتاحت أجزاء واسعة من العاصمة، في مشهد أثار استياء المواطنين وجدّد التساؤلات حول مصادر التلوث والانبعاثات غير المسيطر عليها، وسط صمت رسمي.
وشهدت مناطق متعددة من بغداد، لا سيما في جانب الكرخ وامتدادًا نحو أحياء الدورة والبياع والعامل، تركّزًا واضحًا للرائحة الثقيلة التي وصفها السكان بأنها “خانقة، ومثيرة للدوار والغثيان”، في تكرار لسيناريو التلوث الذي أصبح يظهر بشكل دوري في الأجواء دون إنذار أو توضيح رسمي مباشر.
في هذا السياق، حذّر الخبير البيئي صلاح الدين الزيدي من خطورة استمرار هذه الانبعاثات، مشيرًا إلى أن التلوث الذي تشهده بغداد يعود في معظمه إلى احتراق عشوائي للوقود الأحفوري والمعادن، في مواقع لا تخضع للرقابة البيئية، وتعمل أغلبها خلال ساعات الليل، بعيدًا عن أعين الرقابة.
وقال الزيدي في تصريح خاص لـ”إيشان” إن “ما تطلقه هذه الأنشطة من مركبات كبريتية وأكاسيد خطرة يمثّل تهديدًا مباشرًا لصحة الإنسان والبيئة، لا سيما في ظل غياب المرشحات والمعايير الفنية الأساسية في هذه المواقع”، مشددًا على أن بعض تلك المنشآت، مثل كورات صهر الألمنيوم والفافون، ومعامل الإسفلت غير المرخصة، ومكبات النفايات البلدية، هي من أبرز مصادر الروائح الخانقة التي شهدتها العاصمة الليلة الماضية.
وأضاف الزيدي أن هذه الرائحة لا ترتبط بزمن معيّن بل تعود بشكل دوري، بحسب ظروف الطقس واتجاه الرياح ودرجات الحرارة، موضحًا أن الأجواء الحارة تساعد على تفكيك الغازات وارتفاعها إلى طبقات عليا، مما يخفي أثرها مؤقتًا، بينما تتسبّب الرياح الباردة أو الساكنة بتركّز الغازات على مستوى قريب من الأرض، وهو ما حصل مساء أمس، وأدى إلى تفاقم انتشارها بين الأحياء السكنية.
وأكّد أن “معالجة هذا النوع من التلوث لا تتم بتشكيل اللجان أو إصدار التحذيرات فقط، بل تتطلب تفعيلًا مباشرًا للقوانين البيئية، ومحاسبة حقيقية للجهات المخالفة، وإغلاقًا نهائيًا للمصادر التي ثبت تورّطها في تلويث الهواء”.
وأشار الزيدي إلى أن الجهات الرقابية تمتلك كافة المعلومات حول مصادر هذه الانبعاثات، إلا أن ما ينقص هو الإرادة التنفيذية واتخاذ قرارات لا تقبل المساومة أو التأجيل، محذرًا من أن استمرار التهاون سيجعل المدينة عرضة لمزيد من التدهور البيئي، لاسيما مع اقتراب فصل الشتاء الذي قد يشهد تشكّل أمطار حامضية نتيجة تفاعل الغازات السامة مع الرطوبة.
ويأتي هذا التصاعد في الأزمة رغم التوجيهات الحكومية السابقة بمتابعة مصادر التلوث في العاصمة، لكن غياب الإجراءات الملموسة حتى الآن يُبقي الوضع البيئي في بغداد مفتوحًا على جميع الاحتمالات، ويترك المواطن وحيدًا أمام هواء ملوّث يتنفسه يومًا بعد آخر.