مقال د. عامر عبد رسن الموسوي / نائب رئيس هيأة مراقبة تخصيص الواردات الاتحادية
تقرير مهم في لحظة دقيقة: في 27 آب / أغسطس 2025 صدر تقرير شامل بعنوان “الفقر متعدّد الأبعاد في العراق – التقرير الكامل” عن الحكومة العراقية بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) ومبادرة أكسفورد للفقر والتنمية البشرية (OPHI).
ويكتسب التقرير أهمية استثنائية لكونه يعتمد على مؤشر الفقر متعدّد الأبعاد (MPI) الذي لا يقيس الفقر فقط بوصفه نقصًا في الدخل، بل يتجاوزه ليشمل جوانب أخرى مثل: التعليم، الصحة، السكن، والخدمات الرقمية.
هذا المنهج يمنح صانعي السياسات أداة أكثر دقة لتشخيص جذور الفقر، وفهم كيف يختلف من محافظة إلى أخرى، وبالتالي تصميم تدخلات مستهدفة قادرة على معالجة الحرمان البنيوي بدلاً من الاقتصار على سياسات الدعم النقدي المؤقت.
النتائج الرئيسية للتقرير :
يشير التقرير إلى أن الفقراء في العراق يعانون من 10.8% من مجموع الحرمانات، وهي نسبة تتوزع بشكل أساسي على:
• ضعف مستوى التعليم.
• تردي السكن والخدمات الأساسية.
• فجوة كبيرة في الوصول إلى الخدمات الرقمية، ما يفاقم العزلة عن الاقتصاد العصري.
منذ عام 2011 تمكن العراق من تحقيق تقدم ملموس:
• خفض مؤشر الفقر الوطني بما يقارب 50%.
• تراجع الفقر النقدي إلى 17.5%.
• انخفاض مؤشر MPI من 11.4% عام 2018 إلى 10.8% عام 2024. [ومؤشر الفقر متعدّد الأبعاد (Multidimensional Poverty Index – MPI) هو أداة دولية طوّرتها مبادرة أكسفورد للفقر والتنمية البشرية (OPHI) بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، ويُستخدم لقياس الفقر بطريقة أوسع من مجرد الدخل أو الإنفاق].
لكن التقرير يكشف أيضًا عن فوارق إقليمية صارخة:
• بغداد وكركوك أظهرت نتائج إيجابية بفضل النمو الاقتصادي النسبي وتوافر الخدمات.
• في المقابل، ما تزال محافظات مثل المثنى، ميسان، وصلاح الدين تواجه مستويات مرتفعة من الحرمان المتعدد الأبعاد، حيث يجتمع ضعف التعليم مع سوء الخدمات والسكن المتردي.
دلالات هذه النتائج
1. الفقر لم يعد مجرد مسألة دخل: كثير من الأسر قد لا تُصنَّف فقيرة نقديًا، لكنها محرومة من خدمات أساسية تجعلها عرضة للهشاشة الاجتماعية.
2. التفاوت بين المحافظات يهدد بتعميق الانقسام الاجتماعي والجغرافي، ويجعل التنمية غير متوازنة.
3. تحسن المؤشرات الكلية لا يلغي وجود جيوب عميقة للفقر في الريف والمناطق المحرومة.
الاستنتاجات التي يمكن الخروج بها
• غياب البنية التحتية التعليمية والرقمية في بعض المناطق هو السبب الرئيسي لاستمرار الفقر متعدد الأبعاد.
• الموارد النفطية لم تُترجم بعد إلى تحسين ملموس في حياة شرائح واسعة، خصوصًا خارج المراكز الحضرية الكبرى.
• الفقر أصبح مرتبطًا أيضًا بضعف الحوكمة المحلية، حيث المحافظات الأكثر فقرًا تعاني غالبًا من سوء الإدارة وغياب المشاريع التنموية طويلة الأمد.
مقترحات لمشاريع تقلل من الفقر متعدّد الأبعاد في العراق
1. مشاريع التعليم الرقمي:
• الاهتمام بإنشاء مراكز للتعلّم الإلكتروني في مدارس المناطق الريفية.
• توزيع أجهزة لوحية واتصال إنترنت مدعوم لطلاب وتلاميذ الأسر الفقيرة، بما يتيح فرص التعليم والعمل عن بعد.
2. تطوير السكن والبنى التحتية:
• إطلاق برنامج وطني لإعادة تأهيل المساكن الشعبية وبناء وحدات سكنية ميسّرة فعلًا للفئات محدودة الدخل، بحيث يُعاد توجيه الاستثمار العمراني من التركيز على المشاريع الفاخرة ذات الطابع الطبقي، والتي غالبًا ما أُنشئت في مناطق لم تكن تعاني أصلًا من أزمة سكن، نحو الأحياء والمناطق المحرومة التي ما زالت تواجه عجزًا في أبسط أشكال السكن منخفض الكلفة.
• شمول المناطق المحرومة بشبكات ماء وكهرباء وصرف صحي متطورة.
3. تمكين المرأة والشباب:
• تأسيس صناديق صغيرة لتمويل المشاريع النسائية والشبابية.
• دعم التدريب المهني في مجالات الزراعة الحديثة، الطاقة المتجددة، والخدمات الرقمية.
4. الرعاية الصحية الأولية:
• زيادة إنشاء وحدات صحية متنقلة لشمول مناطق نائية أكثر من الحالية.
• التوسع في برامج الصحة الوقائية، خصوصًا المتعلقة بالأطفال والأمهات.
5. التحول الرقمي للخدمات الحكومية:
• تمكين المواطنين من الوصول للخدمات عبر منصات رقمية تقلل الفساد وتزيد الشفافية.
• منح الأولوية للمحافظات ذات المؤشرات الأضعف.
دروس من تجارب دولية ناجحة
• المغرب: اعتمد برنامج “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” منذ 2005 على استهداف المناطق الأكثر فقرًا بمشاريع متكاملة تشمل التعليم والصحة والسكن، ونجح في تقليص الفوارق الجغرافية.
• الهند: طورت نظامًا ضخمًا للتحويلات الرقمية المباشرة للأسر الفقيرة، ربطته ببطاقات هوية رقمية وطنية (Aadhaar)، ما قلل من الهدر والفساد.
• البرازيل: أطلقت برنامج “بولسا فاميليا” الذي ربط الدعم المالي بشرط إرسال الأطفال إلى المدارس وتلقي التطعيمات، ما ساهم في تحسين رأس المال البشري على المدى الطويل.
• رواندا: بعد الحرب الأهلية، ركّزت على الصحة والتعليم الأساسيين، ونجحت في رفع معدلات الالتحاق بالمدارس وخفض وفيات الأطفال بشكل لافت.
توصيات استراتيجية للعراق
• اعتماد خريطة الفقر متعدّد الأبعاد كمرجع أساسي لتوزيع المشاريع الاستثمارية والتنموية للعشر سنوات القادمة.
• إشراك المجتمع المحلي في تحديد الأولويات، بدلًا من القرارات المركزية التي غالبًا ما تكون بعيدة عن الواقع.
• توجيه جزء من إيرادات النفط بشكل مباشر إلى مشاريع تنموية مستدامة في المحافظات الأشد فقرًا.
• التعاون الدولي: الاستفادة من خبرات وتجارب الدول التي خاضت تجارب ناجحة، مع تكييفها للسياق العراقي.
الخاتمة
تقرير الفقر متعدّد الأبعاد في العراق (2025) ليس مجرد وثيقة إحصائية، بل يمثل جرس إنذار وفرصة في آن واحد. جرس إنذار لأنه يذكّر بأن ملايين العراقيين ما زالوا محرومين من أساسيات العيش الكريم، وفرصة لأنه يوفر بيانات دقيقة يمكن أن توجه السياسات نحو معالجة الحرمانات الحقيقية بدلًا من الاقتصار على سياسات الدعم النقدي.
إن تبنّي استراتيجية شاملة تجمع بين التعليم، السكن، الصحة، والتحول الرقمي، مع استلهام التجارب الدولية الناجحة، سيجعل من الممكن تقليص الفقر في العراق بصورة مستدامة.
المهم أن تكون هناك إرادة سياسية تتجاوز الحسابات الآنية، وتضع مستقبل المواطن العراقي في قلب العملية التنموية.