في أحد أكثر أوجه النضال الفلسطيني إنسانية وإبداعًا، يخوض الأسرى الفلسطينيون معركة غير تقليدية ضد سياسات السجن الإسرائيلية، مستخدمين “النطف المهربة” وسيلةً لانتزاع حقهم في الحياة واستمرار سلالاتهم رغم القيود الحديدية. إنها قصة تحدٍّ تتجاوز جدران الزنازين العالية وأبوابها الموصدة، حيث يولد الأطفال من الآباء المعتقلين في السجون الإسرائيلية، ويصبحون شهادة حية على قدرة الفلسطينيين على مقاومة السجان بأساليب غير مألوفة، لكنها تحمل في جوهرها عمقًا إنسانيًا لا يُستهان به.
بدأت عمليات تهريب النطف من السجون الإسرائيلية مطلع الألفية الجديدة، لكنها اكتسبت زخمًا أوسع منذ عام 2012، عندما نجح الأسير الفلسطيني عمار الزبن في تهريب نطفته إلى زوجته، التي أنجبت طفلًا بعد سنوات طويلة من الحرمان. مثّل هذا الحدث نقطة تحول، حيث شجع أسرى آخرون على المحاولة، مدركين أن السجان الإسرائيلي لا يستطيع احتكار حقهم في الإنجاب.
ومنذ ذلك الحين، تحولت القضية إلى شكل من أشكال المقاومة الرمزية، حيث يتحدى الأسرى سياسة العقاب الجماعي التي تفرضها سلطات الاحتلال عليهم وعلى عائلاتهم، والتي تحرمهم حتى من حقوقهم الأساسية، بما في ذلك الحق في تكوين أسرة.
كيف تُهرَّب النطف؟
تظل آلية تهريب النطف سرًا محفوظًا لدى العائلات والأسرى أنفسهم، حيث تتطلب العملية دقة شديدة وسرية مطلقة. ولكن وفقًا لبعض المصادر، فإن النطف تُهرب عبر زيارات الأهل أو المحامين أو حتى من خلال طرق أكثر تعقيدًا لا يُكشف عنها لأسباب أمنية. غالبًا ما تُنقل النطف في عبوات خاصة تحافظ على صلاحيتها، ليتم إيصالها بسرعة إلى المراكز الطبية التي تتولى عملية التلقيح الصناعي للزوجات.
ورغم التشديدات الأمنية الإسرائيلية المتزايدة، فإن محاولات الأسرى لتهريب النطف لم تتوقف، بل ازدادت إبداعًا، مما يعكس الإرادة الصلبة التي يتمتع بها الفلسطينيون في معركتهم مع الاحتلال.
على المستوى القانوني، لا تعترف إسرائيل بشرعية هذا الإنجاب، لكنها لم تتمكن من منعه قانونيًا حتى الآن. في المقابل، فإن هذه الولادات تُوثّق في السجلات الفلسطينية، حيث يتم الاعتراف بها رسميًا، ويُمنح الأطفال هويات فلسطينية كاملة.
أما على المستوى الاجتماعي، فقد أحدثت الظاهرة تحولًا كبيرًا في نظرة المجتمع الفلسطيني للأسير، إذ لم يعد مجرد ضحية، بل أصبح أبًا يحمل اسمه طفلٌ خارج السجون، في إشارة رمزية إلى أن الاحتلال لن يستطيع محو أثره أو إلغائه من الوجود. لهذا السبب، يحظى “أطفال الحرية” كما يُطلق عليهم، بمكانة خاصة في الوعي الفلسطيني، حيث يُنظر إليهم على أنهم امتداد للنضال الوطني في مواجهة السجان.
أرقام ودلالات
حتى عام 2024، تشير الإحصائيات إلى أن أكثر من 120 طفلًا وُلدوا عبر عمليات تهريب النطف من الأسرى الفلسطينيين، في حين يستمر العشرات من الأسرى في المحاولة لتحقيق حلم الأبوة، رغم الأحكام المؤبدة أو الأحكام الطويلة التي يقضونها خلف القضبان.
تواجه هذه العمليات عقبات كبيرة، خاصة مع تشديد إجراءات التفتيش في السجون الإسرائيلية، وارتفاع مستوى الرقابة على الزيارات العائلية. ورغم ذلك، يبقى الأسرى الفلسطينيون مصرين على انتزاع حقهم في الحياة بطرق غير تقليدية، متخذين من “النطف المهربة” سلاحًا صامتًا في معركة غير متكافئة، لكنها تحمل معاني تتجاوز حدود الزمان والمكان.
في النهاية، تظل هذه القضية نموذجًا فريدًا للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، حيث تتحول النطف إلى فعل مقاومة، ويتحول الأبناء إلى رسائل حية بأن الأمل يمكن أن يولد حتى من أكثر الأماكن ظلمة.