د. منتصر صباح الحسناوي
الماء أساسُ الحياةِ لكلِّ مَن على هذه الأرض، لكنّه في بلادنا يولد مع الذاكرة قبل أن يولد في النهر، يتسلّل كصوتٍ قديمٍ يوقظ البساتين والحقول والحدائق، ويمنح للبقايا المطمورة في الأرض نبضاً يوقظها وإن لم يرها أحد.
تتغيّر الأرض في هذه السنوات ببطءٍ مرهق، ينخفض منسوب النهر، وتزداد حرارة الصيف، ويتقدّم الملح في جسد التربة ويترك مع كلِّ يومٍ بصمةً أثقل من التي قبلها أيضاً، تمرّ الريح محمّلةً بذراتٍ لم تعد رطبة كما كانت، وتتهدّل الأوراق في البساتين القديمة، وتبدو الضفاف كأنّها تقاوم النسيان وتتشبّث بما تبقّى من خضرةٍ وذكرى.
هذا المشهد لا يقتصر على الزرع وحده، هناك تاريخٌ يسمع وقع تغيّرات البيئة، تاريخٌ يعيش في طبقات الأرض ويشبه صدراً ينتظر مَن يزيل عنه الغبار، تنتشر التلال الأثرية في السهول مثل حروفٍ غير مكتملة، تحمل في داخلها مدناً لم تُكتشف بعد، وملاحمَ لم تخرج إلى الضوء، كلُّ تلٍّ خزينةٌ تنتظر زمن اكتشافها، وكلُّ طبقةِ ترابٍ تُخفي حياةً كانت تنشدُ الماءَ كي تبقى.
عندما يشتدُّ الجفاف، يزداد فعل الرياح لينحت ببطء ملامح حضاراتٍ ويأكل بهدوء من أطرافها البارزة، في الوقت ذاته تتقدّم الملوحة في التربة ويبدأ المشهد الصامت داخل تلك المواقع بالتغيّر، تتكوّن بلّوراتُ الملح في قلب اللَّبِنِ القديم، وتتمدّد في الشقوق الصغيرة، وتضغط على جدرانٍ صمدت آلاف السنين. هذه العملية لا تُرى إلا بعد حين، لكنّها تعمل بصبرٍ قاسٍ كأنّ الزمن يستعجل النهاية قبل أن يبدأ الآثاريون قراءة السطر الأول من القصة.
من بين المواقع التي تثير خيال الباحثين تبقى “أكّد” الأكثر حضوراً في الذاكرة، الإمبراطورية الأولى التي ولدت فيها فكرة الدولة الواسعة، وما زالت تنتظر التحديد الحاسم لموقعها.
ومع كل موسم عطشٍ جديد يزداد القلق من أن تُطبق الأرض على أسرارٍ لم تُكشف بعد، هكذا تبدو التلال: صامتة، لكنّها محمّلة بنداءٍ عميقٍ يصدر من تحت التراب.
في مواجهة هذه التحديات تحرّكت الدولة نحو الفعل العلمي، وصدر توجيهٌ من دولة رئيس الوزراء المهندس محمد شياع السوداني بتشكيل لجنةٍ عليا برئاسة الاستاذ الدكتور طورهان المفتي وعضوية وزارة الثقافة وعدد من ممثلي المؤسسات ذات العلاقة لدراسة تأثير التغيرات المناخية على المواقع الأثرية، كانت هذه الخطوة شرارةً انطلقت من وزارة الثقافة والسياحة والآثار عبر فريق التغيّرات المناخية الذي حمل الفكرة من طور التنبيه إلى رحابة العمل المؤسسي، وأجرى زياراتٍ ميدانية وطرح بياناتٍ ومعالجاتٍ عزّزت الوعي العام.
رافق هذا المسار اهتمامٌ إعلاميٌّ واسع، بعد تحرك لتوجيه الرأي العالميّ لهذه المخاطر، فبعد ان تناقلت كثيرٌ من الوكالات الدولية والمحلية خبر مخاطر اندثار كنيسة الأقيصر جراء التطرّف المناخي قبل عدة أشهر . عملنا قبل أيام على تعاونٌ مثمر مع وكالة رويترز، إذ سُلِّط الضوء على مخاطر التغيرات المناخية على عددٍ من المواقع الأثرية ولا سيما في أور وبابل، وتناقلته معظم الوكالات العالمية، وتحوّل الحديث إلى مسؤوليةٍ إنسانية تُلامس الشعور الجمعي، لأن التراث الرافديني يتعدّى الأهمية الوطنية إلى كونه تراثاً إنسانياً ومنبعاً لحضارات العالم.
المرحلة المقبلة تحتاج رؤيةً تمتدّ لأجيال. تتطلّب متابعةً علميةً للمواقع، وشراكاتٍ بحثية، وتقنياتِ حمايةٍ دقيقة، وإدارةً حكيمةً للمياه قرب المناطق الآثارية، فالماء الذي يديم الحياة هو ذاته يحفظ ذاكرة الأرض وأساطيرها.
ليظلَّ الفراتان شاهدين وحاميين بصمتٍ للبشر والحياة والذاكرة، ينتظران استدّامة الحياة وعودة أمواجهما فهي أنفاسهما؛ عندها نعيد للأرض قدرتها على رواية الحكاية من جديد، حكاية بلدٍ صنع التاريخ حين لمس الماء ونصون التاريخ اليوم كي يبقى الماء ومعه الحياة.
