ماركيز حيّاً
بعد نحو ١٠ سنوات من وفاته، أعلنت دار نشر عن عودة الساحر الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز إلى الحياة نصّياً، برواية جديدة لم تُنشر له، حملت عنواناً ابتدائياً “نلتقي في آب”، وأشار بيانُ دار نشرها “راندوم هاوس” إلى أنّ هذه الرواية “آخر جهود ماركيز” قبل أن تُردف “والتي واصل كتابتها رغم الصعوبات”، وحملت دار التنوير، اليوم، خبر صدورها بالعربيّة بعنوان “موعدُنا في آب”، بترجمة وضّاح محمود وبسطر ساحر أعلى الرواية “هديّة غير متوقّعة من أحد أعظم الكتّاب”.
ورثة ماركيز، يُصنّفون بأنهم من ضمن “أجشع الورثة”، لدرجة أنهم كسروا رغبة أبيهم بعدم تحويل “مئة عام من العزلة” إلى فيلم، ليبيعوا، بعد وفاته، حقوق تحويلها إلى “نتفلكس”، الأمر الذي طرح سؤالاً مباشراً: هل “موعدنا في آب” رواية مكتملة؟ أم مسوّدة؟ هل سنرى استمراراً لنسيج ماركيز السردي؟ أم مجرّد أوراق ستتحول إلى ملايين الدولارات في حسابات الورثة؟
ننشر أم لا ننشر؟ تلك هي المسألة!
يعيشُ الكاتبُ المحترفُ بوصفِهِ ماكنةَ كتابة، وقد لا يكون محظوظاً بالغالب بطباعة كلّ نتاجه من جهة، أو الاقتناع بما ينشرُهُ كلّه من جهة ثانية، فبكلّ تأكيد يتنازلُ عديدٌ من الأدباء عن البدايات، ويحذفها، أو لا يضمّنها بأعماله الكاملة تالياً، حتى يهبّ عليه الملاك بعباءته السوداء ويُحيله لرفّ وشاهدة قبر، لكنّ القصة لا تنتهي إلى حدّ هذا، فدوماً ما يقومُ صحفيّ فضوليّ، أو محقّق يرغبُ بأن يرتبط اسمه باسم هذا الكاتب، لينبّشَ ما وراء هذا الكاتب، ثمّ ليقدمه بوصفه “نصوصاً غير منشورة”، وفي كلّ عمل جديد يصدرُ لكاتب معيّن ينقسمُ الجمهورُ الأدبيّ إلى قسمين: الأول يرغبُ بنشر كلّ تراث هذا الكاتب أو ذاك، المجهول منه خصوصاً، والفريق الثاني يفضّل أن تكونَ الصورةُ الأدبية في الفضاء العام هي تلكَ التي يقوم بإنشائها الكاتب نفسه، لا أسرته أو محبّوه!
بورخيس وكافكا بين كوداما وبرود
حتى اللحظة، نحنُ مَدينون للخيانة التي قام بها الصحفيّ التشيكيّ ماكس برود تجاه وصيّة صديقه، الروائيّ والقاص فرانز كافكا، الذي أوصاه بـ”حرق كلّ نتاجه غير المنشور”، غير أن برود رفضَ ذلك رفضاً قاطعاً، ونشر كلّ المجاميع السردية والروايات المخطوطة، فضلاً عن اليوميّات الشخصيّة والرسوم وغير ذلك.
هذه الخيانة، وعدم تنفيذ الوصية، لم يكن سواها ليكون كافكا في رفّ الأدب العالمي، ولانتهى صاحبُ “المحاكمة” إلى مجرّد كومة رماد، وتخيّلوا الأدب العالمي بدون كافكا.
وفي المُقابل، أمام هذه الخيانة اللذيذة، فإنّ أرملة خورخي لويس بورخيس، الشاعر والقاص الأرجنتينيّ، بقيت تُمارِسُ مهمتين متناقضتين ظاهراً: الطيران من بلد الى بلد للحديث عن بورخيس وتجربته وحياتها معه، ثمّ الوقوف بكلّ صلابة لكلّ ما يُمكنُ أن يمسّ هذا المتن، مثل هجومها القاسي على كتاب ضمّ ١١ قصّة لبورخيس، وقالت بشكل قاطع “لقد خامرني الشكّ ذات يوم بكون الأعمال الكاملة إنمّا هي خطأ ذو أصل تجاري أو إحترافي، فأيّ رجل له الحقّ فى أن يستمع إلى حكم النقاد حول أنصع صفحاته ، وليس فقط حول تسليات وشطحات قلمه أو رسائله العرضية، إنّني أريد أن أتصوّر أحكام النقاد حول النصوص التسعة بالذات الموالية وليس حول صدى تلك القصص فى الذاكرة”.
وظلّت أحاديثُ مختلفة، عن أن الأرملة التي توفيتْ لاحقاً، ما تزالُ تمتلكُ مخطوطات لبورخيس لم تر النور، لأنها لم تشأ أن تنشرَ شيئاً غير مُعتمد بصيغة نهائية من قبل بورخيس نفسه.
السيّاب مُتجدّداً
رغم عمره القصير نسبياً (1926- 1964)، إلاّ أن بدر شاكر السياب، الشاعر والمترجم العراقي ترك آثاراً كثيرة، طُبعَ مُعظمُها في حياته.
لكن وزارة الثقافة والإعلام المُنحلّة، قرّرت، وبمناسبة الذكرى السادسة لرحيل السيّاب ١٩٧١، أن تحتفلَ بالذكرى، وشكّلت لجنة خاصة للاشراف على الاحتفال وهي مؤلّفة من د.زكي الجابر، والناقد عبد الجبّار داوود البصري، والشاعرين سامي مهدي وخالد علي مصطفى، ومن مهامّ هذه اللجنة جمع وتحقيق ما لم يُنشر من شعر السيّاب، وبعد الاتصال بذويه تمّ الحصول على بعض القصائد، التي جُمعت كلّها بديوان حمل عنوان (قيثارة الريح).
كان رأي سامي مهدي في حينها أن تُهمل بعض قصائد المجموعة، وهي بالفعل مجموعة ضعيفة قياساً بتراث السيّاب، وكان مبعث رأي سامي مهدي هو أن “لكل شاعر بدايات، وعادة ما تكون هذه البدايات ضعيفة، لصغر سنه، ومحدودية ثقافته، وقلّة خبرته، وأن الشعراء يهملون هذه البدايات عادة، ولا يضمونها إلى مجامعيهم الشعرية. وهذا ما فعله السياب نفسه، فلماذا نجيز لأنفسنا توثيق ما أهمله؟”، لكن اللجنة لم تتوقّف لدى رأي سامي، ومضت بطباعة المجموعة الضعيفة هذه، بطباعة فاخرة، وبتصميم التشكيليّ العراقيّ المرموق ضياء العزّاوي.
ولم يتعرّض السياب للنبش شعرياً فقط، فقد تصدّت دار الجمل أيضاً لتحقيق وجمع مقالاته في ذمّ الشيوعية والحزب الشيوعي العراقي، المنشورة في صحيفة “الحرية”، ونقلت صورةً ثانية، ركيكة للشاعر الشتّام المُهتز المنقلب على معسكر آيديولوجي كان فيه. ولا يخفي معظم الأدباء العراقيين بعدم رغبتهم بنشر هذا الكتاب، ولا تلك المجموعة.
قصيدةُ درويش التي لا تنتهي
لم يتنازل الشاعر – النجم محمود درويش عن مجموعته الشعرية الأولى “عصافير بلا أجنحة” فحسب، بل لاحقته المجموعة الأخيرة لتصدرَ بعد وفاته بقليل (٢٠٠٩) عن دار رياض الريّس، وقد حملت عنوان “لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي”.
وواجهت المجموعة الشعرية هذه التي حملت عنواناً فرعياً “الديوان الأخير” انتقادات حادة، لاشتمالها العديد من الأخطاء العروضية، الإملائية، اللغويّة، المطبعية، وحظيت بهجوم موسّع من قبل أبرز الشعراء العرب، حيث قال عنها الشاعر البارز شوقي بزيع إن “الأخطاء أمر يصعب تقبّله بالنسبة إلى شاعر ممسوس بالإيقاع من وزن محمود درويش. وحساسية المسألة لا تكمن فقط في كون الشاعر قد صرّح غير مرّة بأنّ القصيدة عنده تتولّد بادئ ذي بدء من تواترات إيقاعية غامضة لا تلبث أن تتقمّص الكلمات، بل لأنّ أحدا من القرّاء لم يسبق له أن لاحظ في أعمال الشاعر السابقة أيّ خلل إيقاعي أو تعثّر في اقتفاء الأوزان والبحور”.
المجموعة عثر عليها الكاتب إلياس خوري، بشقّة محمود درويش الأخيرة في عمّان، وتولّى نقلها إلى الحاسوب، ورغم تحمّله مسؤولية “الأخطاء” لكن ذلك لم يعفِهِ من المُساءلة. كما أن امتناعه حينها عن عرض الأصول، شكّك بعض الكتّاب بأن ذلك حدثَ لأن بعض القصائد ما تزالُ مسوّدات، وغير مكتملات.
وأعادَ الكتابُ نفسَ التساؤلات المُعتادة: هل يجوز لنا نشر ما لم ينشره الشاعر؟ أو يتلوه على منبر؟
عاصفة يوسف الصائغ الأخيرة
آخرُ العواصف التي تهبّ من هذا المورد، كانت طباعة يوميّات للشاعر والروائي والمسرحي العراقيّ يوسف الصائغ، قبل عامٍ تقريباً تحت عنوان “يوميات يوسف الصائغ – أبداً، ليس بالخبز وحده نحيا”.
الكتابُ صدر بجهدٍ واضحٍ للمحقّق والناقد د. قيس كاظم الجنابي، وضمّت اليوميات، كما تبيّن مقدّمة الجنابي، دفاتر كُتبت منتصف السبعينات، وأخرى بداية الثمانينات، ورسالةً مطوّلة، ونصّاً شعرياً لم يُنشر سابقاً، ومسرحية لم تُنشر هي الأخرى.
المشكلة الأساسية في هذا الكتاب أن اليوميات لم تكن نصّاً إبداعياً موجّهاً للعامة، أو أن يوسفاً كتبها وفي ذهنه قارئ، لكنها كانت دفاتر شخصية، ليواجه ظرفاً نفسياً ألمّ به، سياسياً أولاً، وفقداناً ثانياً، فضلاً عن إشكالات كبيرة في التحقيق، تصل لدرجة عدم معرفة أغنية معروفة لـ”فيروز”، أو الاشتباه باسم “إسماعيل” الذي يذكره الصائغ ليكونَ بحسب المحقق “إسماعيل الشيخلي”، بينما المقصود “إسماعيل فتاح الترك”.
حملت تلك اليوميات أموراً شخصياً كان من المفترض، بحسب كثيرين، أن لا تُنشر للعامّة، ومن ضمنها إساءات لبعض أصدقائه وصديقاته، وحتى أقاربه.
تقرير: علي وجيه.