اخر الاخبار

استعدوا لذروة الصيف.. جمرة القيظ تدخل أجواء العراق رسمياً وتستمر حتى 2 آب

   بدأت جمرة القيظ الأولى، والمعروفة باسم “المرزم”، رسمياً اليوم...

ذات صلة

من دكاكين الصرافة في بغداد إلى وول ستريت: لماذا يتراجع الدولار؟

شارك على مواقع التواصل

في الأزقة المكتظة لمناطق الصرافة في بغداد، كما في الممرات الزجاجية لوول ستريت، بات سؤال واحد يتردد على الألسنة: ما الذي يحدث للدولار؟ العملة التي لطالما عُرفت بسطوتها العالمية، تسجّل تراجعًا ملحوظًا في العراق، حيث انخفض سعر صرفها إلى نحو 139,500 دينار لكل 100 دولار، بعد أن كانت تلامس حاجز الـ150 ألفًا قبل أسابيع فقط. وبينما يُرجع البعض هذا التراجع إلى عوامل محلية كتحول آليات الاستيراد وانخفاض الطلب التجاري، إلا أن الصورة الأوسع تشير إلى تغيّرات أعمق تجري على مستوى النظام المالي العالمي. فالدولار، الذي شكّل لعقود ركيزة الهيمنة النقدية الأميركية، يشهد الآن لحظة ارتجاج قد تعيد تشكيل خريطة النفوذ الاقتصادي بين الأمم.

الدولار في العراق

وفي توضيح لأسباب هذا الانخفاض، قال الخبير الاقتصادي الدكتور كوفند حسين شيرواني، في تصريح لمنصة “إيشان”، إن هناك مؤشرات عالمية تدل على تراجع قيمة الدولار، نتيجة جملة من العوامل، أبرزها الإجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة مؤخراً، والتي شملت فرض زيادات على التعريفات الجمركية ضد عدد كبير من الدول التي تصدر إليها أو تتعامل تجارياً معها، ما أدى إلى تراجع حجم التبادل التجاري بين واشنطن وهذه الدول.

وأشار شيرواني إلى أن بعض تلك الدول ردّت بالمثل، بفرض تعريفات جمركية إضافية على البضائع الأمريكية المستوردة، ما ساهم في إبطاء حركة التجارة العالمية. وأضاف أن هناك تكتلاً من الدول الكبرى، مثل روسيا والصين والهند، بدأ يبتعد تدريجياً عن التعامل بالدولار، مفضلاً الاعتماد على العملات المحلية في التبادلات التجارية الدولية، وهو ما تسبب في تراجع محدود في قوة الدولار عالمياً.

أما على الصعيد المحلي، فأوضح الخبير الاقتصادي أن التراجع يعود أيضاً إلى تغير في آلية الاستيراد، حيث كان التجار سابقاً يشترون الدولار لتأمين السيولة اللازمة لاستيراد البضائع، لكن مع اعتماد آليات مصرفية جديدة للاستيراد وبكلفة أقل، تراجعت الحاجة لشراء الدولار من السوق. وأضاف: “الآن قد يقتصر جمع الدولار على صغار التجار، أو أفراد يشترونه لغرض الادخار، خاصة من لا يثقون بكفاءة النظام المصرفي المحلي”.

ولم يستبعد شيرواني عودة الدولار إلى الارتفاع مجددًا، مشيرًا إلى أن ذلك مرتبط بعوامل عديدة، بينها التطورات الجيوسياسية في المنطقة. وقال: “في حال حدوث انفراجة بالأوضاع السياسية في الشرق الأوسط، من المتوقع أن تنتعش الحركة التجارية، ما قد يعزز من قيمة الدولار مجددًا”.

لكنه حذر في الوقت ذاته من تأثير الأزمات المستمرة، مثل الحرب في غزة، وتصاعد التوتر بين إسرائيل وإيران، والصعوبات في حركة الملاحة عبر البحر الأحمر، قائلاً إن هذه الظروف تضيف أعباء إضافية على التجارة العالمية، سواء عبر ارتفاع كلف التأمين أو اضطرار الشركات إلى اختيار مسارات نقل بديلة وأغلى، ما ينعكس على انسيابية التجارة، وبالتالي على استقرار أسعار العملات.


عملة الهيمنة تدخل منعطفاً تاريخياً

في لحظة فارقة من عمر الاقتصاد الأميركي، يواجه الدولار، الذي ظل لعقود العمود الفقري للنظام المالي العالمي، تحديات غير مسبوقة تهدد مكانته كعملة احتياط مهيمنة. فقد سجل مؤشر الدولار الأميركي في النصف الأول من عام 2025 تراجعًا بنحو 11 بالمئة، في أسوأ أداء نصف سنوي منذ عام 1973، وهو ما أثار قلقًا واسعًا في الأوساط الاقتصادية والسياسية على حد سواء. هذا التراجع لا يُعد عارضًا مؤقتًا أو حركة تصحيحية تقنية، بل يعكس بحسب عدد من المحللين تحوّلًا بنيويًا في موقع الدولار داخل النظام المالي الدولي.

من بين أبرز دوافع هذا الانخفاض، وفقاً لمراقبين، تراكم الدين العام الأميركي الذي تجاوز 37 تريليون دولار، بالتزامن مع تبني الحكومة الأميركية لسياسات توسعية ضخمة، شملت ضخ أكثر من 5 تريليونات دولار في الأسواق منذ جائحة كوفيد-19، دون تغطية إنتاجية مقابلة. هذه السياسة التي عُرفت بـ”التيسير الكمي”، أسهمت في رفع معدلات التضخم وأضعفت ثقة المستثمرين في استقرار الدولار على المدى الطويل.

الضغط السياسي على الاحتياطي الفيدرالي زاد الطين بلّة. ففي ظل صراع داخلي محتدم بين إدارة الرئيس دونالد ترامب ورئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، أصبح الدولار ورقة تجاذب بين من يسعى لإضعافه عمداً لتحفيز الصادرات، ومن يتمسك باستقرار العملة كأداة لضبط التضخم. ويرى محللون أن هذا التناقض في التوجهات أضعف مصداقية السياسة النقدية الأميركية وأربك الأسواق، في وقت يشهد العالم فيه تحولات متسارعة في موازين القوى الاقتصادية.

إلى جانب العوامل الداخلية، أسهمت التطورات الجيوسياسية في تقويض الثقة بالدولار كعملة محايدة. فقد أعادت إجراءات مثل تجميد الأرصدة الروسية في 2022 الجدل حول استخدام الدولار أداة ضغط سياسي، وهو ما دفع دولًا كبرى إلى التوجه نحو تقليل اعتمادها عليه، مخافة الوقوع في فخ العقوبات مستقبلاً. هذا الاتجاه تُرجم فعليًا من خلال توقيع اتفاقيات ثنائية بين دول مثل الصين وروسيا والهند لاستخدام العملات المحلية في التبادلات التجارية، فضلاً عن مشاورات مجموعة “بريكس” بشأن إنشاء عملة احتياطية بديلة.

الدولار، الذي ظل يشكّل الغطاء الرئيس لحوالي 80% من المعاملات التجارية العالمية، يفقد تدريجيًا هذا الامتياز. فبحسب بيانات عام 2024، وصلت قيمة التجارة السنوية المرتبطة بالدولار إلى نحو 33 تريليون دولار، منها 24 تريليون في تجارة السلع، و9 تريليونات في قطاع الخدمات. لكن تراجع الثقة الدولية وانتشار البدائل النقدية بدأت تزعزع هذا النفوذ، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات قد تطال النظام المالي برمّته.

انعكاسات هذا التحول بدأت تتضح في عدة جبهات. الدول التي تربط عملاتها بالدولار أو تعتمد عليه في التبادل التجاري، تواجه ارتفاعاً في تكاليف الاستيراد وتذبذباً في استقرار عملاتها المحلية. البنوك المركزية، التي تحتفظ بجزء كبير من احتياطاتها بالدولار، تشهد تراجعًا في القيمة الحقيقية لأصولها. كما أن أسعار السلع الأساسية مثل النفط والذهب والغذاء أصبحت أكثر عرضة للتقلب، بفعل غياب مرجعية نقدية موثوقة. والأسواق الناشئة، التي تعتمد على تدفقات رأس المال الأجنبي، تواجه بدورها اضطرابات متزايدة في ظل تذبذب قيمة الدولار.

ومع أن تراجع الدولار لا يعني انهياره الوشيك، إلا أنه يشير بوضوح إلى تغيّر تدريجي في قواعد اللعبة الاقتصادية العالمية. ففي عالم متعدد الأقطاب، حيث تتنامى تحالفات جديدة وتبرز عملات بديلة، يبدو أن الدولار يفقد شيئًا فشيئًا هالته كعملة لا بديل لها، ويدخل عصرًا جديدًا قد يُعاد فيه رسم خريطة الهيمنة النقدية العالمية.